محاولة لدخول مدارس الغناء
فى الأسبوع الماضى كتبت عن زكريا الحجاوى، أحد أعمدة الفن الشعبى المصرى، وصاحب الفضل الأكبر على الأصوات الجميلة التى بحث عنها وقدمها للجمهور العريض، وعبّرت عن التنوع الذى يميز مصر، وطالبنى أصدقاء أعزاء بمواصلة الكتابة فى هذه المنطقة التى أتحدث فيها مستعينًا بخبرات شخصية مع فن الغناء وليس كمتخصص، فقد قضيت طفولتى وصباى وجزءًا من شبابى فى الريف، وأحب الموالد وأذهب إليها حتى الآن.
وكنت محظوظًا مثل أقرانى بالاستمتاع بمحمد طه وهنيات شعبان وخضرة محمد خضر ويوسف شتا وأبودراع والريس حفنى والشيخ شرف التمادى والشيخ عبدالمعبود وغيرهم، وكنت أشعر معهم ببهجة لا يمكن وصفها، وفى الوقت نفسه كنت محظوظًا بالاقتراب من عدد كبير من الملحنين والمطربين المشهورين، وعلى رأسهم أخى وصديقى الساحر عمار الشريعى ومولانا الشيخ إمام عيسى.. أعرف أن هناك من يتعالى على الغناء الشعبى، ومن يتعالى على الغناء العربى كله، وهذا المتعالى غالبًا يمتلك تطلعات أكبر من تصوراتنا عن الحياة.
وحسب خبراتى المتواضعة، يوجد فى كار الغناء، أو كار الحنجرة كما كان يسميه الشيخ إمام، أكثر من تخصص، يوجد المطرب والصييت والمنشد والمداح والمبتهل، وأستاذ الجميع والملهم هو قارئ القرآن الكريم الموهوب.. يوجد المغنى الرسمى، الأفندى، الذى يطل على الناس بعد اعتماده فى الإذاعة، وتذاع أغنياته فيها، وهذا المغنى هو سليل تراث عظيم فى الثقافة الموسيقية، بدأ فى القرن التاسع عشر مع محمد عثمان وعبده الحامولى والشيخ المسلوب، وراكم فى هذا الاتجاه عباقرة التلحين:
- سيد درويش وداود حسنى وكامل الخلعى ومحمد القصبجى وزكريا أحمد والأستاذ محمد عبدالوهاب والسنباطى وفوزى والشريف وصدقى وعشرات غيرهم، هؤلاء عبّروا عن التنوع، وقدّم كل واحد منهم إسهامًا عظيمًا وشكلوا معًا جدارية تليق ببلد قديم ومتنوع ومنسجم مثل مصر، هذه المدرسة صدمتها هزيمة يونيو ١٩٦٧، تعافت بعد نصر أكتوبر، ولكن فقدت جزءًا كبيرًا من روحها، لم ينجح التوزيع المبالغ فيه فى تعويضه فى السبعينيات.. تراجع دور الإذاعة فيما بعد، وظهر المال الخليجى، وقرر استثمار ما يمثل هذه المدرسة لصالحه، إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
فى المقابل توجد مدرسة عريقة أخرى، هى مدرسة الحى الشعبى القاهرى والسكندرى، وهى مدرسة ليست سهلة، هى لا تعترف بها الإذاعة، ولكنها صاحبة حضور قوى، وعلى رأس هذه المدرسة:
- عبده الدمرداش، الذى تُحكى عنه أساطير، وكان الراحلان الكبيران خيرى شلبى وأحمد فؤاد نجم يحفظان مواويله عن ظهر قلب، ويقال إن معظم مواويل عبدالوهاب مستلهمة منه، وبخصوص الموال، كان الموال قبل موسيقار الأجيال يعتمد على الارتجال وحالة المغنى كل مرة، وعبدالوهاب هو الذى وضع له السياق الموسيقى الذى اعتمده الجميع بعد ذلك.
الدمرداش هو ملهم المدرسة التى تخرج فيها أحمد عدوية والذين ساروا على دربه، هى أقرب لمزاج ابن البلد المحب للفن والسامر، يعتمد المغنى على البداهة والارتجال وعلى معرفته الحقيقية بجمهوره.. فى الإسكندرية نبغ عزت عوض الله وأبوأحمد وغيرهما فى اللون نفسه، وكان جمهور الغناء الرسمى هو نفسه جمهور هذا اللون الشعبى الجميل المرتبط غالبًا بالأفراح والمناسبات السعيدة بشكل عام.
بين المدرستين ظهرت مجموعة عظيمة جمعت الحسنيين، تستطيع أن تستمع إليهم وسط الناس، وترحب بهم الإذاعة بعد أن اعتمدتهم، مثل محمد عبدالمطلب وعبدالعزيز محمود ومحمد الكحلاوى ومحمد رشدى ومحمد العزبى وبدرية السيد وعايدة الشاعر وحورية حسن وغيرهم.
رافد آخر عبّر عن الريف ببكارته ونقائه وتقشف الفرقة الموسيقية المصاحبة، عبّرت عنه خضرة محمد خضر وهنيات شعبان وعزيزة يونس وغيرهن، هذا الرافد كان جمهوره فى الموالد أو أفراح ميسورى الحال فى القرى، توجد بالطبع روافد أخرى جميلة فى الصعيد مثل الشيخ أحمد برين والشيخ التونى وغيرهما، من الذين سدوا فراغًا كبيرًا، وعبّروا عن مشاعر نقية فطرية يعجز المتخصصون عن بلوغها.
يوجد أيضًا الإنشاد الصوفى، حيث تزعم ياسين التهامى اتجاه الفصحى، وتزعم عبدالمعبود عامية الدلتا، كل هذه الاتجاهات إلى وقت قريب كانت موجودة ولا تناحر بينها، وكل اتجاه له تاريخ وأسطوات ومراجع، وكان الجمهور يذهب إلى من يريح قلبه، والآن توجد مشكلة حقيقية، لأن القائمين على صناعة الغناء مشغولون بحفلات الساحل الشمالى، ولا يعرفون أن أصواتًا وأنغامًا تنتظر من يأخذ بيدها فى كل الأقاليم.. قادرة على الطبطبة على أرواحنا هذه الأيام.