فى محبة رجاء النقاش
ربما لا يعرف الجيل الحالى من الشباب مَن هو رجاء النقاش، إذ غادرنا رجاء النقاش فى عام ٢٠٠٨ بعد صراع مع المرض، وتفقد مصر أحد أهم وأصدق كُتابِها ونقادها فى النصف الثانى من القرن العشرين.
وُلد رجاء النقاش فى عام ١٩٣٤، وعاصر أواخر العصر الليبرالى، وشبّ مع ثورة يوليو وأحلامها العظام. وتولى رئاسة تحرير العديد من المجلات فى مصر والعالم العربى، لكن أهم ما يميز رجاء النقاش- الذى لم ألتق به قط- هو الصدق والبحث عن الجديد.
مَن يُصَدق أنه هو الذى قدم أسطورة الرواية العربية «الطيب صالح» إلى القراء؟ بحسه النقدى الرفيع والصادق يلتقط رجاء النقاش رواية لأديب سودانى شاب، لم تصدر الرواية مطبوعة، وإنما نُشِرَت فى مجلة «حوار» البيروتية. وهنا يحدث المستحيل، إبداع على إبداع؛ إبداع الناقد على إبداع الروائى. مَن يقرأ نقد النقاش لـ«موسم الهجرة للشمال»، يدرك مباشرة أهمية هذا النقد والتحليل، الذى ينبع فى حقيقة الأمر من مدرسة ما بعد الاستعمار، وإعادة التصورات فى علاقة الشرق بالغرب.
وفى مجال الكتابة عن الشعر، أعتقد أن كتاب رجاء النقاش عن الشاعر الكبير محمود درويش، ربما من أهم- إن لم يكن أهم- الكتابات النقدية التى تناولت درويش شعرًا وظاهرة.
ولا أنسى لحظة تعرفى على كتابات رجاء النقاش لأول مرة مع كتابه الصغير والدسم «أدباء معاصرون»، ومن يومها رحت ألتهم كل ما يقع تحت يدى من نتاج النقاش سواء فى شكل كتب أو مقالات، وظللت أتابع مقالاته حتى عندما ترك مصر وذهب للعمل فى صحافة الخليج.
تذكرت كل هذا التاريخ الطويل مع رجاء النقاش، وأنا أطالع مؤخرًا ما أعده من مذكرات لنجيب محفوظ، تحت عنوان «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ». ومن مقدمة المذكرات نستطيع أن نتبين طبيعة شخصية النقاش ومدى احترامه لقلمه وعدم الاستسهال فى الكتابة؛ إذ جمع النقاش تسجيلات مع محفوظ بلغت حوالى خمسين ساعة. وبدأ النقاش رحلته مع جمع المذكرات فى عام ١٩٩٠، ولم ينته من إتمام إعدادها إلا فى ديسمبر ١٩٩٧، حتى تخرج على النحو الذى يليق بمحفوظ.
ومَن يعرف نجيب محفوظ جيدًا يعرف أنه صادق مع الصادقين، ومراوغ مع المراوغين. وأشهد أن محفوظ فى شهادته مع النقاش كان من أصدق الصادقين؛ إذ تحدث محفوظ بأريحية عن حياته كشاب قبل الزواج: «فى الفترة التى سبقت زواجى عشت حياة عربدة كاملة». وأنه رثى عبدالناصر بعد وفاته رثاءً حارًا فى جريدة الأهرام، ومع ذلك يقول: «أدركت أنى قبل هزيمة يونيو ٦٧ كنت أعيش فى وهم كبير». كما روى محفوظ قصة اعتراض الاتحاد الاشتراكى على فيلم «ميرامار»، وكلف عبدالناصر نائبه السادات بمشاهدة الفيلم واتخاذ القرار المناسب. وكم كانت دهشة محفوظ عندما صرح السادات باستمرار عرض الفيلم. وتزول دهشة محفوظ عندما يعرف بعد ذلك أن موقف السادات من الفيلم كان نكايةً فى الاتحاد الاشتراكى.
كم هى رائعة وصادقة ومثيرة مذكرات محفوظ، ولقد سمعت أن هناك جزءًا من المذكرات لم يُنشَر لأنه كان متعلقًا بفترة حكم مبارك. وأتمنى أن نرى يومًا هذا الجزء الذى أعتقد أنه لن يقل صدقًا أو إثارة عن بقية أجزاء المذكرات.