«مراجعة العالم الجديد الشجاع».. نظرة ألدوس هكسلي الاستشرافية لمآل الإنسانية
في عام 1931 كتب الروائي الإنجليزي ألدوس هكسلي روايته الشهيرة "عالم جديد شجاع"، التي عُدّت مرجعًا في الأدب الاستباقي، وصُنّفت من أفضل روايات القرن العشرين، وفيها يقدم هكسلي تصوره المستقبلي لمآل البشرية في ضوء التقدم العلمي المُهيمن والذي توقع الكاتب في روايته أن يصل إلى حد السيطرة على حياة الناس.
عاد هكسلي إلى روايته مرة أخرى في عام 1958 حينما كتب "العالم الآن.. مراجعة العالم الجديد الشجاع" الذي ضمّ به مقالات تحلل النظرة المستقبلية المتضمنة في روايته، وهو الكتاب الذي نُشرِت ترجمته العربية حديثًا عن "دار خطوط وظلال" الأردنية.
يتعرض هكسلي في كتابه إلى مشكلات لا تزال قائمة في العالم الراهن كان قد طرح بعض من ملامحها في روايته الاستشرافية، كما يقترح حلولًا للخروج من مآزق تقييد الحريات الذي توقّع أن يتخذ أبعادًا واسعة عبر استغلال أدوات الدعاية في السيطرة على عقول الأفراد والحشود، متعمدًا إجراء مقابلة بين صورة المجتمع المحكوم بالعقاب والخوف منه والذي وصفه جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984"، ومجتمع روايته "عالم جديد شجاع" الذي إن ندُر فيه العقاب، فالسيطرة شبه الكاملة تتحقق باستخدام شتى أنواع التلاعب الجسدي والنفسي.
مآسي العصر
يرى هسكلي أن ثمة قوى تدفع بالعالم في اتجاه كابوس على شاكلة عالم جديد شجاع، ويتم تسريع هذا الدفع بطريقة مقصودة من ممثلي المنظمات التجارية والسياسية التي وضعت تقنيات جديدة للتلاعب بأفكار ومشاعر الحشود.
انطلاقًا من البيولوجيا، يعتبر الكاتب أن التطور العلمي الذي قاد إلى سيطرة سهلة على الموت وبالتالي انخفاض في معدل الوفيات مع استمرار ارتفاع معدلات المواليد رسم وسيرسم مستقبل قاتم للبشرية؛ إذ ستهدد هذه الزيادة السكانية الموارد الطبيعية المتاحة والممكنة في العالم ما سيؤثر بدوره على الاستقرار الاجتماعي ويرسم ملامح مشكلات سياسية وثقافية ونفسية مستعصية.
يقول هكسلي: "ستجعل مشكلة تزايد أعداد سكان الكوكب جميع مشاكلنا الأخرى غير قابلة للحل، بل أسوأ من ذلك ستخلق ظروفًا تجعل الحرية الفردية والمتطلبات الاجتماعية الأساسية للمنهج الديمقراطي مستحيلة الوجود أو التصور".
يستعرض الكاتب أسباب الارتباط بين تزايد أعداد البشر ووضع فلسفات استبداية وظهور أنظمة حكم شمولية بتوضيحه لأثر ضغط الزيادة السكانية على الموارد المتاحة وما ينتج عن ذلك من تدهور الوضع الاقتصادي وهشاشته في المجتمعات التي تشهد تلك الزيادة. جراء ذلك، ستضطر الحكومات المركزية لتحمل أعباء مسئوليات إضافية لتحقيق الفائدة العامة، ووضع خطط مفصلة دقيقة للتعامل مع المواقف الحرجة، وفرض قيود متزايدة على أنشطة وحريات رعاياها. عند هذه الحالة، سيتوجب على الحكومات المركزية التدخل للحفاظ على النظام بهدف تعزيز سلطتها ما يؤدي إلى مزيد من تركيز السلطة.
لا تخُص المشكلة البلدان التي تعاني وضعًا اقتصاديًا هشًا، فتلك الحالة ستؤثر برأي الكاتب على الدول الأوروبية المتقدمة صناعيًا؛ إذا كانت الديكتاتوريات معادية لها وإذا توقف التدفق الاعتيادي للمواد الخام من البلدان المتخلفة بمنهجية متعمدة، فستجد دول الغرب نفسها في وضع سيء. سينهار نظامها الصناعي ولن تسمح التكنولوجيا بالغة التطور بحمايتها بعد ذلك من العواقب. من جهة أخرى، هذا الوضع غير المستقر في العالم سيدفع البلدان المتطورة لتكثيف الاستعدادات للدفاع أو الهجوم الانتقامي، وهو ما يمثل تهديدًا للحرية التي لا يمكن أن تزدهر في بلد على وشك خوض غمار الحرب بشكل مستمر.
مثالب التقدم التكنولوجي
يتجه هكسلي لاستعراض أساليب تقييد الحرية الأخرى بالمستقبل، فليس ضغط الأعداد الهائلة المتزايد على الموارد المتاحة هو المشكلة الوحيدة، وإنما تحالف تلك المشكلة مع التقدم التكنولوجي سيزيد الأمور تعقيدًا؛ فالتقدم التكنولوجي قاد وما زال إلى تركيز ومركزة القوى السياسية والاقتصادية. يقول هكسلي: ستتحكم الدولة في التجارة الكبرى التي سيسهل وجودها التقدم التكنولوجي ودمار الاقتصاد الصغير، فالتكنولوجيا الحديثة أدت إلى تطوير مجتمع تسيطر عليه الشركات الكبرى والحكومة الكبرى.
من جهة أخرى، فالتطور العلمي منح الأولية للتنظيمات على الأفراد، ما يعني إخضاع الغايات للوسائل كما حدث في حكم ستالين وهتلر بتطبيق العنف والبروباجندا والترهيب الممنهج والتلاعب المنهجي بالعقول، وهو ما يجعل هكسلي يتوقع أن القرن الحادي والعشرين سيكون عصر المتحكمين العالميين.
يرى هكسلي أنه في المستقبل ستترك الأساليب العقابية الموجودة في رواية "1984" مكانها للتعزيزات والتلاعب الموجود في رواية "عالم جديد شجاع"، التي تستخدم بها وسائل إلهاء مستمرة بشكل متعمد كأدوات للحكم والسلطة لمنع الناس من أن يولوا اهتمامًا بحقائق الوضع الاجتماعي والسياسي السائد.
ويوضح: "مجتمع يقضي وقته في عوالم لا تمت للواقع بصلة سيجد صعوبة في مقاومة تجاوزات أولئك الذين سيتلاعبون به ويسيطرون عليه. سيتعلم ديكتاتوريو المستقبل إدماج وسائل القمع مع فنون التلاعب والإهلاء المستمر التي تهدد بأن تغرق الغرب الآن في بحر اللا معنى".
فضلًا عن ذلك، يتوقع هكسلي أن تُعزز سُبل الهيمنة والتحكم باستخدام مجالات علم النفس التطبيقي وعلم الأعصاب التي تعد ميادين يبدع فيها صانع البروباجندا وغاسل الأدمغة، بالإضافة إلى اعتماد أساليب التلاعب بالفرد المنعزل عبر استغلال نقطة انهيار كل فرد الخاصة به وهي من الأساليب القديمة التي استغلت منذ أزمنة سحيقة.
يقترح الكاتب للخروج من ذلك النفق المظلم المنتظر في المستقبل الاهتمام بتعليم يعزز حقائق التنوع الفردي وقيم الحرية والتسامح والإحسان المتبادل التي هي النتائج الأخلاقية لتلك الحقائق، ومواصلة تطوير التقنيات والأساليب المناسبة لتحقيق تلك القيم ومكافحة من يتجاهلونها، بالإضافة إلى سن تشريعات قانونية تحمي العقول من مروجي الدعاية السامة الهادفة إلى تكبيل الأفراد واستغلالهم دون وعي منهم.