ومنين بيجى الرضا؟
منذ ما يقرب من خمسين سنة لخص سيد حجاب فلسفته عن الحياة فى مقدمته الرائعة لمسلسل لا يزال صداه ممتدًا اسمه «ليالى الحلمية».. يومها وكعادته راح مهندس الشعر المصرى ابن المطرية والصيادين يطرح الأسئلة الوجودية الصعبة وهو يمهد لدراما تشرح وترصد وتسجل وقائع حياة المصريين عبر خمسة أجيال ويزيد.
كان أهم هذه الأسئلة فى ظنى «ومنين بيجى الرضا؟» صحيح أنه وقتها أجاب إجابته الفطرية التى تبدو للبعض سهلة ومريحة.. «من الإيمان بالقضا».. فاستراح كل من سمع.. وتنهد كل من رأى.. وارتكن إلى حكمته الشعبية التى تعلمها من الغيط والشمس والمحرات.. من الليل والقمر والطين والطير والماء والنار.. استرحنا جميعًا لإجابة الشاعر الحكيم.. لكننا ومن حينها وربما من قبل ذلك بسنين كثيرة نبحث عن هذا «الرضا» ولا نجده.. وكثيرًا ما نحيل أزماتنا وعدم قدرتنا فى الوصول إليه بأنه «قلة إيمان»!
لماذا أتذكر ليالى الحلمية وسيد حجاب الآن.. وبعد كل هذه السنوات؟.. هل هناك ثمة علاقة ما بين هذه الدراما والتعديل الوزارى الذى جرى منذ ساعات؟!
نعم.. ربما هذا ما دفعنى لحالة الحنين التى تتسرب من موسيقى ميشيل المصرى وصوت محمد الحلو وهما يؤكدان بيقين كامل «من الإيمان بالقضا».
لقد لاحظت.. وغيرى كثيرون.. طيلة ساعات ليلة ما قبل التعديل.. أن المصريين، غالبية من تحدثت إليهم.. أو قرأت تعليقاتهم على «السوشيال ميديا»، قلقون.. حالة من القلق انتابت معظم هؤلاء.. وفى نفسى حالة من الترقب الشديد.. ربما هى إحدى الجلسات القليلة التى يعقدها البرلمان وينتظرها الناس فى بلادى بهذا الكم من التوجس والأمل.
هل كان الناس فى حاجة إلى ذلك التعديل؟.. الإجابة السهلة.. نعم.. فكرة التغيير والتعديل وعدم الثبات فى حد ذاتها دليل على الصحة والعافية والقدرة على الحركة باستمرار.. الاستقرار أحيانًا يصيب الفرد بالوخم ويصيب مفاصل «الحكومة» بالتيبس.. هل جاء التعديل لإرضاء الشارع؟.. ربما.. وهل هناك عيب فى أن تسعى الحكومة أو البرلمان لإرضاء الشارع؟! هنا ليس عيبًا فى حد ذاته.. فغاية أى حكومة فى الدنيا أن تصل إلى «رضاء الناس».
هذه الحالة من الترقب كانت بالنسبة لى شيئًا طيبًا.. هذا القلق أمر صحى.. ذلك الانتظار أمر يعنى أن ناس هذا البلد يعنيهم أمره وأمرهم.. نحن نبحث عن «الأفضل».. نحن نسعى إلى المستقبل.. هذا ما تعنيه باختصار رغبة الناس وسؤالهم عمن سيبقى أو سيرحل.
ربما يكون تقديرنا لتجربة د. طارق شوقى فى الوزارة خاطئًا.. وقد يكون صحيحًا.. لكن المؤكد أن «حالته» أثارت جدلًا واسعًا فى الشارع المصرى.. لا أحد فى مصر ولا غيرها يرفض فكرة تطوير التعليم.. لا أحد يملك ذرة من عقل يمكن أن يجابه الرغبة فى العبور إلى تعليم حقيقى قائم على الفهم والمهارات واكتشاف مواهب وقدرات أبنائنا.. لا أحد.
من الطبيعى أن يلاقى أى تغيير مقاومة كبيرة فى البداية.. لكن حجم المقاومة فى تجربة طارق شوقى لم يكن هينًا.. الأمر يتعلق بملايين الأسر.. وبمستقبل الملايين من أبنائها.. آلاف المعلمين وبعضهم للأسف لا يستطيع تقبل ما أتى به التطوير.. وهذا أمر خطر.. على الوزير الجديد، وهو معلم بالأساس، أن ينتبه له.. لقد قاوم المعلمون فى أماكن كثيرة فى مصر فكرة التغيير من أساسها.. ارتاحوا إلى ما كانوا عليه لأنه يحقق لهم مصلحة مباشرة.. فلا يوجد مدرس فى مصر يستطيع أن يعيش بما يتقاضاه من الحكومة أو أصحاب المدارس الخاصة التى صارت «بؤرة» لتسليك الدروس الخصوصية ليس أكثر.. ومنجمًا لجنى الأرباح من جيوب أولياء الأمور.
التعليم مثله مثل الصحة عملية مكلفة جدًا بالنسبة للحكومة وللمواطنين، وليس من السهل أن يتم تطويرهما فى يوم وليلة.. ولكن كان علينا أن نبدأ.. ربما رأى البعض منا ممارسات خاطئة أو غير صحيحة لعملية التطوير أو بعض تفاصيلها كما هو الحال بالنسبة للثانوية العامة مثلًا وما حدث فى امتحاناتها ونتائجها لثلاثة أعوام متتالية.. لكن هذا قطعًا لا يعنى فشل «الفكرة».. لأننا نحتاج إلى تطوير التعليم قطعًا.. فبغيره لا يمكن البناء والعبور إلى حياة مختلفة.
ربما استطردت فى حالة وزارة التعليم لأنها تكاد تكون الحالة الأكثر جدلًا.. وستظل.. لكن باقى الحقائب الثانية عشرة.. كل منها أثار جدلًا فى قطاع ما.. أو عدة قطاعات.. وسيظل.
لست معنيًا بالأسماء.. وبعضها يستحق أن نوجه له الشكر فيما أنجز.. ما يعنينى هو الحالة ذاتها.. هل يتوقع البعض منا أن يرضى المصريون بين يوم وليلة عن أى تعديل أو تطوير يحدث فى الحكومة أو غيرها؟.. أعتقد أن المسألة أصبحت صعبة جدًا.
الظروف التى يعيشها العالم.. ونحن جزء منه.. فرضت علينا تفكيرًا مختلفًا.. وما بين المقاومة والاستجابة مسافة شاسعة.. تسمح لآلاف الآراء بأن تنتشر وليست كلها لوجه الله قطعًا.. لكن المؤكد أن التغيير احتياج.. سواء فرضته هذه الظروف أو كان نتاجًا طبيعيًا لحركة العمل الذى يجرى على الأرض والذى يحتاج إلى تجديد الدم فى قطاعات متعددة وليس فى الحكومة فقط.. وبخاصة تلك القطاعات التى تتعامل مع المواطنين بشكل مباشر.. ولذا لم أستغرب أن يتحدث الناس عن تغيير محتمل للمحافظين يتمنونه واسعًا قبل أن يحلف الوزراء الجدد اليمين الدستورية.
الناس فى أقاليم مصر.. سواء كان المحافظون الذين يتولون محافظاتهم يؤدون بشكل جيد من عدمه.. يطمحون إلى ما هو أفضل وأسرع وأجدى وأولى من وجهة نظرهم.. وقد يحدث هذا التغيير غدًا أو بعد أسبوع أو الشهر المقبل.. فهل سيرضى أولئك الباحثون عن التغيير؟.. قطعًا لن يرضوا.
ذلك «الرضا» الذى يقترب من الحلم بمدينة فاضلة لا أحد ينتظره الآن.. لكن غالبية من يتحدثون فى الأمر يتعشمون فى استمرار «العمل» فى الحركة.. «فى ملاحقة ما يجرى على الأرض».
ليست المدارس وحدها ما يشغل الناس.. وليست المستشفيات ولا الكهرباء والمياه.. صارت احتياجاتنا فى هذا العالم مختلفة تمامًا عن ذلك العالم الذى كتب عنه أسامة أنور عكاشة.. ليالى الحلمية الجديدة مختلفة تمامًا.. وكل العشم أن نعيشها بشكل أفضل.. هذا ما نتمناه.. لنا.. ولشوارعنا.. وبلادنا التى لا رضاء لنا بغيرها.