فى حضرة المحور الاقتصادى!
«1»
فى تسعينيات القرن الماضى وفى بداية عملى كمرشد سياحى تعثرت سائحة إنجليزية من مجموعتى فى قطعة حجر أمام معابد أبى سمبل، فسقطت على وجهها وأصيبت بجرح فى جبهتها، أسعفناها وأبلغت الشركة المصرية بالتفاصيل. بمجرد عودة السيدة لبلادها بدأت ولمدة ثلاثة أشهر مراسلات ثلاثية بين الشركة الإنجليزية والشركة المصرية وبينى، أجبتُ خلالها على عشرات الأسئلة المكتوبة التى تمحورت جميعها حول سؤالٍ واحد: مَن المسئول عن تعثر السيدة وسقوطها، هل السيدة بعدم انتباهها أم هناك مسئول آخر كان عليه رفع هذا الحجر ولم يرفعه، أم هناك من وضع الحجر عنوةً فى موضعه، أم أنه حادثٌ قدرى لم يكن ممكنا تجنبه؟! من المسؤل لكى يدفع الثمن؟!
منذ عدة أسابيع، وعشية تحريك أسعار الوقود الأخير وأمام أحد مخابز مدينتى الجنوبية استمعتُ لهجوم غالبية الحضور على الحكومة وترددت عبارات الحسبنة والحوقلة.. لم أستطع مقاومة إغراء الدخول فى مناقشة مع أكثر المتحسبنين والمتحوقلين لمعرفة وجهة نظره. علمتُ أن الرجل لديه ثمانية أبناء فى «البلد»، قاصدا قريته الواقعة فى محافظة أخرى، وأنه حسب تعبيره يسحب ببطاقته دقيقا مدعما لهم بينما يعمل هنا ويضطر لشراء الخبز بسعره الحر! ويصر على الحسبنة فى أولى الأمر الذين يهرسون «الغلابة»!
«2»
استمعتُ لكثير من المناقشات والآراء التى أدلى بها خبراء اقتصاديون ببعض القنوات المصرية، وذلك على هامش الحوار الوطنى. واتفق معظمهم على الحاجة الملحة لوضع المحور الاقتصادى على قائمة أولويات الحوار الوطنى للخروج من الأزمة الاقتصادية «العابرة» التى يمر بها العالم ومصر!
عقب ظهور ملامح الأزمة الاقتصادية على السطح وما تبعها من تحريك للأسعار فى مصر، بات هناك فريقان، الأول منهما هو غالبية المصريين، والذين يمكن معرفة آرائهم من خلال الاستماع إلى الحوارات التى تجرى فى الأسواق أو أى تجمعات أو متابعة الكوميكس على وسائل التواصل الاجتماعى والتى يتفق غالبيتها على تحميل «الدولة» المسئولية عن الأزمة..
بينما الفريق الآخر- من مسئولين أو إعلاميين ممن يحاولون توضيح الأمور للناس- تشبث بفكرة واحدة وهى أن الأزمات العالمية بسبب حرب أوكرانيا وما قد يتبعها من أحداث أخرى هى السبب لما تواجهه مصر، وأن هذه أزمة عارضة!
لكننى كمواطن مهتم منذ الصغر بالشأن العام، وكمطالع للأخبار المحلية ولما يجرى على الساحة المصرية ومتابع للصحف منذ نهاية الثمانينيات كمصدر أوحد للمعلومات وقتها، أرى أن طرح المسألة بهذا الشكل يجانبه الصواب وينذر بعدم خروج مصر من أزمتها الاقتصادية على المدى القصير حتى مع انتهاء أزمة أوكرانيا، لأننا نصر على دفن الرءوس فى الرمال وعلى عدم مواجهة الحقائق وعلى الخوف من مواجهة أنفسنا كمصريين بما اقترفناه ونقترفه بشكل جمعى ونأنف من دفع ثمنه!
«3»
فى بداية الثمانينيات ساق الله لمصر كوكبة من المسئولين الشرفاء الذين شرعوا فى محاولة بناء جادة لدولة عصرية مدنية تعتمد على التنمية والتصنيع وزيادة الناتج المحلى، مثل كمال الجنزورى وماهر أباظة وسليمان متولى وحسب الله الكفراوى وغيرهم. وشهدت السنوات العشر الأولى من حكم مبارك طفرة تنموية كبرى لمسناها حتى فى جنوب الصعيد.
كانت مصر وقتها مرشحة لانطلاقة تنموية كبرى، لكنها للأسف لم تتم وجرى إجهاضها بفعل فاعل أو فاعلين كُثر. وهذا ما يدفعنى لكتابة هذا المقال، لأننى أشاهد تكرارا للمشهد، فما تم على الأرض منذ 2014م وحتى الآن وبالأرقام والبيانات هو عمل معجز ولا شك، لكنه للأسف مهدد بالإجهاض إن لم تكن هناك وقفة حقيقية لوضع المتهمين بإجهاض محاولة الثمانينيات فى قفص الاتهام لكى نتجنب تكرار المأساة.
إن أول من تشير إليهم أصابع الاتهام فى الثمانينيات هم أصحاب العمم! الذين اتخذوا موقفا جماعيا رسميا- كمؤسسات دينية حكومية- وشبه رسمى- كوعاظ وعلماء منفردين- برفض طموحات الدولة وتوجهاتها بحصار الانفجار السكانى. اتخذت مؤسسات دينية رسمية موقفا عدائيا رافضا لأول مؤتمر دولى للسكان على أرض مصر، وتم التشهير بالدولة المصرية واتهامها ساعتها بمعاداة الإسلام ومحاولة تغريب المصريين وإبعادهم عن الدين!
ثم خاض الوعاظ حربا شرسة ضد مشروع تنظيم الأسرة، ونجحوا فيها نجاحا ساحقا ماحقا لطموحات مصر المشروعة، فانفجرت مصر بسكانها وفقرها وعشوائياتها ومرضها وجهلها وراحت كل مشروعات التنمية أدراج الرياح وباتت مصر ساعتها كمن يحاول ملء خزان مياهٍ تلمؤه الثقوب!
لم تسلم مدخرات المصريين من تلك الحرب، فقد أفتى الشيوخ بحرمة التعامل مع البنوك الوطنية، فسلموا بذلك أموال المصريين بالخارج والداخل غنيمة سهلة لنصابى شركات توظيف الأموال الذين لم يكن لديهم سوى اللحى والجلابيب البيضاء وبعض الأسماء اللامعة من الشيوخ ليقدموه للمصريين فى مقابل الاستيلاء على أموالهم وليضربوا بذلك الاقتصاد المصرى ضربة موجعة!
ثم، ولضرب دور الدولة تماما، استغل الشيوخ- ولا يزالون- حقيقة نفور المصريين من القراءة، فأخذوا يدغدغون مشاعر الفقر لدى المصريين وذلك بصب أكاذيب وأوهام تاريخية صبًا فى العقول عن «الدولة الإسلامية» المثالية التى تعول رعاياها وتزوجهم وتنفق عليهم وتدللهم!
استسلم النظام الحاكم بعد سنوات البداية الطموحة للهزيمة، ربما بفعل الإحباط أو استغلال بعض أركانه لبدايات ضعفه، فعاثوا فسادا فى ربوع مصر، فالتهم الفساد البقية الباقية من الدولة، ونهب ما تبقى من أموال المصريين فى البنوك، وغدت مصر تحيا فى وضعٍ غريب يتأرجح بين الموت والحياة. وأدار النظام اقتصادَ مصر بطريقة التسول وبيع الأصول بدلا من تشغيلها، واستسلم للخطوط الحمراء التى فرضت عليه، وعلى رأسها عدم التوسع فى رقعة الأراضى الزراعية.
لم يكن لدى النظام أى قوة يواجه بها تلك الخطوط المفروضة عليه من الخارج لأنه قد هُزم داخليا بفعل فاعلين مصريين لم تتم محاسبتهم حتى الآن!
«4»
أزمة مصر الاقتصادية ليست عارضة مرتبطة بالظروف الخارجية فقط، كما أنها ليست قضاءً وقدرا لم يكن ممكنا تجنبه! إنها تجسيدٌ لعلم المنطق وفكرة الاستدلال المنطقى فى المسائل الرياضية! مقدمات تقود لنتائج! فهى أزمة مرتبطة بتراكم ما جرى ويجرى فى مصر ولن تنتهى بانتهاء الحرب الأوكرانية إن لم يدرك المصريون حجم ما اقترفوه فى حق مصر. وهى ليست قضاءً وقدرا بفعل أوبئة أو كوارث طبيعية، لكنها جريمة بشرية اقترفها مصريون لا يزال كثيرٌ منهم يصرون على اقترافها!
من ظواهر تلك الأزمة أو الجريمة هو التركيبة السكانية المصرية. فبعد عقود من نجاح الشيوخ فى حربهم ضد تنمية مصر، تكاثر المصريون فحولوا مصر من دولة منتجة عاملة إلى دولة غالبية سكانها صغار السن غير منتجين، تحولت مصر إلى دولة مستهلكة أو دولة طفلة إنتاجيا!
ثم كانت النتيجة المنطقية لدولة تخطى عدد سكانها مائة مليون نسمة، أن تكون الزيادة السنوية بأرقام تقارب عدد سكان دول صغيرة! وحتى مع الجهود الضخمة للسيطرة على هذا التمدد السكانى فما زال كثير من المصريين فى القرى والنجوع يقتنعون تماما بأن أى تدخل تنظيمى فى عملية الإنجاب هو كفرٌ صريح، وما يدفعهم للتشبث بذلك المعتقد هو أنه يعاضد رؤيتهم القبلية فى أن الإنجاب بكثرة هو «عزوة» للعائلة تنفعها وقت المواجهات!
ومن الظواهر الكاشفة لطبيعة تلك الأزمة داخل مصر أن كثيرا من المصريين لا يزالون منفصلين عن الواقع العالمى تماما، يعتقدون أن المواطن فى الدول المتقدمة مدللٌ يعبُ من أموال الدولة عبا! لا يعرف كثيرٌ من المصريين أن التعليم الجامعى المجانى مثلا لم يعد له وجود فى جميع هذه الدول! وأن المواطن لا يكسب جنيها واحدا خارج الأوراق الرسمية وأنه يدفع نسبا تقارب 45% من دخله المعروف فى صورة ضرائب! وأن المواطن فى أى دولة متقدمة مما يحلم بها المصريون لا ينجب ثمانية أو تسعة ثم يطالب تلك الدولة بالإنفاق عليهم!
إننا الآن ندفع جميعا ثمن الموقف الجمعى الذى اتخذه المصريون من قضايا كثيرة، وعلى رأسها قضية تنظيم الأسرة. ندفع الثمن حتى وإن رفض منا قطاعٌ هذا الموقف كأفراد، لأن الثمن هنا جمعى يتداخل فى جميع تفاصيل الحياة، فمن أنجب طفلا واحدا يعانى ويدفع ثمن قرار يتخذه آخرون بإنجاب ثمانية أطفال!
وإننى أعتقد أن أبناءنا أيضا سوف يكونون من دافعى ثمن ما اقترفناه فى حق هذه البلاد فى العقود التى ذكرتها إن لم يحدث ما أتمناه وأتوق إليه من القيام بانتفاضة وعى حقيقية
«5»
إننى أتمنى أن يدرك المؤتمرون المعنيون بمناقشة المحور الاقتصادى أن التعامل مع هذا الملف بمنطق «الإسعاف» لتلبية احتياجات المواطنين وتخفيف الأعباء عنهم- وإن كان ضروريا وحتميا ومن طبائع الأمور- لكنه بمفرده مجردا من النظرة الكلية الجامعة للملف سوف يصب فى اتجاهٍ واحد كارثى.
هذا الاتجاه هو الاستمرار ولو بطريقة مختلفة فى سياسة التدليل وعدم مواجهة المسئولين الحقيقيين عما آلت إليه أوضاع مصر الاقتصادية. إن ثقافة تحمل المسئولية الاجتماعية ودفع الثمن يجب أن تجد طريقها مجتمعيا داخل مصر.
على المسئولين أن يضعوا مرآة مكبرة أمام المصريين لكى يروا أنفسهم جيدا، أن تكون هناك مواجهة ومصارحة حقيقية، والمصارحة هنا لا تعنى المصارحة بحقيقة الوضع الاقتصادى لأن ذلك موجود بالفعل وهناك شفافية تحسب لهذه الإدارة المصرية الحالية، ولكن المصارحة التى أعنيها هى عدم الاستحياء من مصارحة المصريين بحقيقة مسئوليتهم الجماعية عما فعلوه بمصر! وأن المصريين جميعا مسئولون عن أوضاعهم الاقتصادية وعليهم دفع ثمن تلك المسئولية!
♦ فليس عدلًا أن تقوم مصر فى سبع سنوات بإضافة مساحات زراعية عملاقة مثل ما تم زراعته قمحا ورأيته بنفسى فى منطقة توشكا، ولأول مرة تتنازل مصر عن تصنيفها المشين كأكبر مستورد للقمح، ثم تبتلع الزيادة السكانية هذا الإنجاز السياسى والاقتصادى غير المسبوق!
ليس عدلًا أن تقوم مصر فى نفس تلك السنوات القليلة- وفى نفس وقت المواجهة العسكرية الشرسة- بشق شرايين الحياة والتنمية فى صحارٍ لم تطأها قدم بشر منذ بدء الخليقة، ثم يخرج علينا متنطعٌ - يلقى فى وجه مصر بطفلٍ كل عام- ليتهم مصر نفسها بالتقصير فى إعالة أطفاله!
ليس عدلًا أن تنجح دولة كان وجودها ذاته على المحك وفى غضون سنوات قليلة بتحقيق نسبة نمو عالمية شهدت بها المؤسسات الدولية ذات الاختصاص والمصداقية، ثم يذهب ذلك فى بئرٍ سحيقة من ذيوع ثقافة الجهل والتخلف!
إن ما أنجزته مصر فى سبع سنوات كان يكفى منفردا لإقامة دولة عدد سكانها يوازى عدد سكان دول عربية مجاورة!
ليس عدلًا أن أكثر المتهمين إدانة بمسئوليتهم عن غرس ثقافة السباق فى كثرة الإنتاج البشرى الغوغائى لا يتم محاسبتهم ولو أدبيا وتاريخيا !
«6»
لذلك فإننى أتمنى أن يقوم المعنيون بمناقشة المحور الاقتصادى بالاستعانة بالخبراء فى باقى الملفات لسد الثقوب قبل الحديث عن ملء الخزان بالماء!
لأن أى محاولة لمجابهة الملف الاقتصادى أو ملف الأزمة دون أن تتوازى معه محاولات أخرى ومواجهات أخرى خاصة بالحالة المصرية ستكون كالحرث فى الماء! محاولات تخفيف العبء عن المواطنين يجب أن تتم بالتوازى مع استجابة هؤلاء المواطنين استجابة واقعية على الأرض لجهود إعادة الوعى.
ليس منطقيا أن يبحث المواطن دائما عما يستطيع الحصول عليه من دولته دونما إلزام لنفسه بأى التزامات أخلاقية أو أدبية أو حتى قانونية تحصن جهود تلك الدولة فى التنمية فلا تذهب هباءً منثورا!
أحضروا من لديه البيانات عما جرى فى مصر منذ 1981م وحتى الآن ليخبروا المصريين على الهواء مباشرة كم كانت أعداد الزيادة السكانية، وكم التهمت من مشاريع تنمية، ولو لم تنفجر مصر سكانيا فكيف كان سيختلف الموقف.
أخبروا المصريين أنه قد آن الأوان ليدركوا أنه قد تم استغلال ميلهم للجهل المعلوماتى والثقافى لإجهاض اقتصاد بلادهم، وأن هذا الميل فى حد ذاته بما ترتب ونتج عن استغلاله أصبح جريمة يتساوى فيها من تم استغلالهم بمن قاموا بهذا الاستغلال!
أخبروا المصريين بأنه مهما بذلت الدولة من جهد ومهما أنجزت من مشاريع إنتاجية عملاقة، ومهما حباها القدر باكتشافاتٍ لموارد طبيعية، إن لم يتواز ذلك مع رغبة حقيقية لدى المصريين فى التغيير العقلى، فلن يكون لكل ذلك أى مردود على الأرض ولن يشعر به المصريون وسوف تستمر الأجيال القادمة فى دفع ثمن ما نقترفه نحن!
أخبروا المصريين إنهم يخدعونكم.. من يحدثونكم عن الصين كمثال لحسن استغلال الزيادة السكانية، وأن الفارق فيمن يحكم يخدعونكم! هذا محض كذب وإفك، فالمصريون لن يحتملوا واحد بالمائة من نظام الحكم فى الصين وقوانينه الصارمة! ولو حاول نظام الحكم المصرى ممارسة أى بند من بنود الصرامة الصينية فيما يخص الأسرة، فهؤلاء أنفسهم الذين ظلوا يتغنون بالمثال الصينى سوف يكونون أول من يتهم نظام الحكم المصرى بالكفر والإلحاد! وسوف ينساق خلفهم كثيرٌ من المصريين!
إن أى مراقبٍ منصف لما جرى فى مصر فى السنوات القليلة الماضية سوف يصاب بنوعين من المشاعر المتناقضة.. الشعور بالفخر الشديد والمرارة الشديدة.. الفخر لما تحقق على الأرض.. والمرارة لمصير هذا الذى تحقق فى السنوات القادمة لو استمر الحال بالمصريين كما هو دون ثورة وعى حقيقية تنفض عن عقولهم ما أهيل عليها من أكوام من التخلف قام به أصحاب العمائم والفاسدون على حدٍ سواء..
ولا أجد وصفا لامتزاج تلك المشاعر معا أفضل من تلك العبارة التى يرددها أحد معلقى كرة القدم المصريين.. «إنه الجنون يا سادة!»