البحث عن أرواحنا المفقودة فى المدينة
…
هل شاهدت من قبل فيلم «حياة أو موت».
كنت أعتقد أننى مغالٍ فى حب هذا الفيلم من فرط مشاهدته بشكل متكرر أشبه بالوِرد « بكسر الواو».. حتى أصبح بمثابة كبسولة نفسية أستخدمها فى طرد الطاقة السلبية والضغوط الخانقة للروح.
كان غوصى داخل كادرات كمال الشيخ البديعة هروبا إلى ماضٍ جميل..
جميل فى ناسه كما هو جميل فى عمرانه وهندسته.
جماله ينضح به كل مشهد وكل تفصيلة من أول الكادرات البانورامية لشوارع قاهرة الخمسينيات ومرورا بمبانيها ولافتات محلاتها المدهشة ووصولا لأصوات الخطوات على السلم وما يصاحبها من تعبيرات كثيرة على وجه المواطن أحمد إبراهيم، أو عماد حمدى، متباينة بين الألم والأمل والرجاء واليأس وهو يتلمس الدواء الذى أرسل ابنته فى طلبه.
من فرط شغفى بالفيلم ظننتنى خبيرًا ولن أجد من هو أكثر منى إدراكًا لتفاصيله وجمالياته.. إلى أن قادنى التقليب العشوائي على الفيسبوك إلى بوست جديد بالنسبة لي فهمت منه أن شخصًا عثر على «سميرة»، طفلتى المحبوبة التى أسرت عقلى وقلبى وهى تقطع شوارع القاهرة بحثا عن دواء لأبيها المريض.
ضحى أميرى.. بطلة الفيلم وبطلتى الأثيرة التى أحتفظ بقصاصات قديمة لحوارات معها وعنها من مجلات الخمسينيات ظنا منى أن تلك القصاصات هى كل ما تبقى منها.. لكن أحد الشغوفين بالجمال بحث عنها ووجدها.
قفزت شغفًا وفرحًا، وبدأت أبحث عن تلك الجملة المكتوبة على الصورة «أرواح فى المدينة» لأكتشف كنزًا ثمينًا من الحكاوى التى تستحضر أرواحًا عاشت وتعيش فى وجداننا حتى دون أن ندرى.
«أرواح فى المدينة» مشروع ثقافى خلاب وخاطف للعقل والوجدان، أخرجه الزميل الصحفى الكبير محمود التميمي.. كان هو الرجل الذى بحث عن محبوبتى ضحى ووجدها بعد 68 عامًا من ظهور الفيلم.
قرأت بنهم عن مشروع التميمى حتى إنني أحسست بأنه مشروعى الشخصى من فرط ما هو يعبّر عنى.
وحضرت العرض التفاعلى الذى أقامه التميمى فى جولة افتراضية عبر ترام كمال الشيخ الذى استأجرته المنتجة العظيمة «آسيا» خصيصا لتصوير الفيلم.. وطفنا عبر الزمن لأكتشف أنني لم أكن أعرف الفيلم الذى شاهدته مئات المرات وكنت أظن أنني خبير به.
وجدتنى فى جولة شديدة الخصوصية عبر ترام 30 بصحبة «ضحى»، أو «سميرة»، وكأنني أرى الفيلم لأول مرة من دسامة التفاصيل الممتعة التى أغرقنا فيها التميمى بشغفه وبحثه الدءوب.. جولة فاح منها أحب رائحة إلى قلبى، رائحة أوراق الصحف والمجلات القديمة التى تؤرخ لمصر وناسها في القرن العشرين.
كل لقطة وصل إليها ترام 30 اختطفنا التميمى فيها إلى حكاية، فعندما وصل الترام إلى شارع قصر العينى غُصنا فى سيرة علية زكى، مديرة روضة أطفال قصر الدوبارة، وعرفنا من تحقيق قديم للمصور أن الهند استضافتها لتحكى عن تجربة مصر في التعليم وتتأكد من جودة المدارس الهندية.
وعندما وصل الترام ميدان التحرير أزاح الرجل الستار عن محل الموبيليات الشهير في الميدان لصاحبه فؤاد الإسكندرانى وولده سمير، لنجد أنفسنا أمام حكاوى أخرى عن مغامرات سمير الإسكندرانى المطرب المثير للجدل وما فعله مع محمد عبدالوهاب عندما ورّطه فى دويتو دون إرادته.
ومن الإسكندرانى إلى كمال الإبراشى، طبيب الأسنان المثقف الذى حبسه السادات، وتحدى السفير الإسرائيلي، والذي كانت عيادته فوق مقهى «الأمريكين» في شارع فؤاد أو 26 يوليو ثم إلى شركة المنسوجات المصرية لصاحبها محمد رزق، والتي ظهر جزء من لافتتها في لقطة من الفيلم.
سيل من الحكايات التى نسجها الترام في رحلته عبر قاهرة الخمسينيات.. سياحة عبر الزمان والمكان وأنت جالس في سينما الهناجر استمرت 4 ساعات دون أن يشعر أحد من الجالسين بالملل أو التململ.
…
الحقيقة أن مشروع «أرواح فى المدينة»، أو بمسماه الأشمل «القاهرة عنوانى»، هو مشروع ثقافى طموح جدا يستحق أن تتحد فيه الإرادة الجمعية من أجل ابني وابنك.. هذا الجيل المنكوب بالتكنولوجيا التى خرّبت عليه حاسة الشغف وأسلمته إلى واقع افتراضى يتعامل معه بأطراف أصابعه فقط..
لا بد أن يعرف هذا الجيل أنه ينتمى لبلد كبير يقف خلفه تاريخ عظيم في تفاصيله، مبهر فى حكاياته.. لن يرى ذلك الجمال وهو يتجول بسلاحه ليقتل أصدقاءه فى لعبة «بابجى» أو وهو يقفز على القطارات فى «سب واى».
...
شكرًا لمحمود التميمى الذى أحيا بشغفه شغفنا، وكلى أمل أن يكون مشروعه الثقافى الممتع نواة لمشاريع أخرى تستحضر أرواحنا المفقودة فى مدينة غريبة لم تعد كالمدينة.