أنا والثانوية العامة وسميرة سعيد
يوم إعلان نتيجة الثانوية العامة بالنسبة لى وقد كان فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى.. كان يومًا عاديًا.. كان هناك بعض التوتر لكنه توتر طيب بسيط.. كنت أخشى السقوط حتمًا.. لكنى لم أكن أفكر، ولا أعتقد أن أبناء جيلى كانوا يفكرون بهذا الشكل الجنونى الذى يعيشه أبناؤنا اليوم..
هو يوم مهم.. الراديو أبرز ملامحه.. فقد كانت النتيجة تذاع كاملة عبر موجات الإذاعة المصرية.. وما بين كل مدرسة وأخرى تتم إذاعة أغنيات صُنعت خصيصًا لهذه المناسبة، أشهرها على الإطلاق أغنية شادية وفاتن حمامة «ألو ألو إحنا هنا.. والناجح يرفع إيده للعندليب».
والدى لم يكن يعنيه الأمر فى شىء.. السنة مثلها مثل غيرها.. فلم تكن مصاريف المدارس ولا الكليات تمثل عبئًا كبيرًا.. كنا نسكن فى المدينة فى حجرات صغيرة تكلفنا خمسة جنيهات أسبوعيًا.. طعامًا وشرابًا ومواصلات وفسحًا أيضًا، ولم تكن الدروس الخصوصية بكل هذا التوحش، ولم نكن نلجأ لها من الأساس.. الطلاب الفاشلون فقط هم الذى كانوا يترددون على أماكن هذه الدروس، وربما لشهر أو شهرين قبيل الامتحانات ليس أكثر.
والدتى.. ما كان يعنيها فى الأمر.. من نجاحى من عدمه.. هو ألا يصيبنى الزعل إن «رسبت»، أما المجموع كام وهاروح فين وأعمل إيه.. فكل هذه الأسئلة لم تكن مطروحة من الأساس، هى لحظة فرح منتظرة.. يأتى فيها أحد الفراشين بالبشارة، ويحصل على خمسين جنيهًا- كان مبلغًا معتبرًا وقتها، وتوزع والدتى الشربات على جيرانها مع شوية زغاريد صعيدية طيبة.
المهم.. يومها صحوت كما أصحو كل يوم.. لا أرق ولا خوف ولا يحزنون.. جاء البوسطجى فتصورت أنه قادم بالنتيجة، لكنه فاجأنى بأنه أتى بخطاب مسجل بعلم الوصول مرسل لى من المغرب.. كنت قد نسيت أننى وجدت عنوان منزل النجمة سميرة سعيد فى إحدى المجلات وراسلتها بعد أن كتبت لها نماذج مما كنت أظنه أغنيات صالحة للغناء بصوتها. ودهشت من خطها فهى لا تجيد الكتابة بالعربية تقريبًا.. خط مقروء بالعافية، فهمت منه أنها تشكرنى على رسالتى لها، وأنها ستكون بالقاهرة عما قريب، وأنه يسرها أن نلتقى فى استديو هانى مهنى.. بشارع السودان فى المهندسين.
كانت رسالة سميرة بن سعيد- كما وقعت خطابها- أجمل مكافأة فى ذلك اليوم، حتى أننى نسيت حكاية الثانوية ونتيجتها التى تذاع فى الراديو، وكنا قد وصلنا إلى ما بعد عصر ذلك اليوم.. وبعض زملائى وصل إليهم الفراشون وبشروهم بنجاحهم.. ومرت ساعة ليصل من يبشرنى أنا الآخر بنجاحى بمجموع ليس كبيرًا لكنه يضمن لى دخول كلية طيبة.. كان من يحصل على خمسين بالمائة بالمناسبة يجد له مقعدًا فى إحدى الكليات.. لذلك لم تكن هذه الهوجة وذلك الفزع الذى نعيشه مع أولادنا اليوم.
لم أدخل كلية الإعلام كما كنت أرغب.. وذهبت لدراسة الآداب والتربية.. وعُينت بعد تخرجى مدرسًا لكننى لم أستلم خطاب التعيين، فقد أصبحت صحفيًا تحت التدريب بمجلة الإذاعة والتليفزيون، واستمرت الرحلة وعملت فى المهنة التى أحببتها وانتهى الأمر.
لماذا أتذكر هذا الأمر اليوم.. وقد خضت التجربة فى العام الماضى مع ابنى الأكبر ولم أشأ أن أكتب وقتها لا مدحًا ولا قدحًا فيما أوصلتنا إليه التجربة؟
كانت فكرة الوزارة فى تجربتها القضاء على الدروس الخصوصية.. فصارت أبشع وأعنف وأغلى وأكثر.. كان الغرض هو وضع حد لحالة الخوف والرعب التى تعيشها الأسر طيلة أشهر الامتحانات، فصار الرعب جاثمًا على صدور أهالينا طيلة العام.. كان الغرض هو البحث عن مواهب أبنائنا وميولهم بعيدًا عن الأرقام والنتائج، فصار الحصول على الأرقام هو الغاية حتى وإن حدث ذلك بالغش أو التسريب أو ما شابه.
هل يعنى ذلك أن التجربة فشلت؟.. بالقطع لا.. هل الوزارة وحدها هى المسئولة عن هذه الحالة؟.. بالقطع أيضًا لا.. نحن جميعًا نشارك فى هذه المسرحية السخيفة.. علينا أن نترحم بأطفالنا وشبابنا.. وليحصد أى منهم ما يحصد من أرقام وليحصل على فرصته التى يريدها فى أى موقع.
لم يعد النجاح ولم يكن فى يوم من الأيام مقرونًا بالحصول على شهادة بعينها.. قراءة الواقع وسوق العمل على مدار سنوات تؤكد ذلك.. لكننا نرفض أن نصدق ومازلنا نصر على وهم كليات القمة.. ووجدها أصحاب الجامعات والمعاهد الخاصة فرصة للتربح.. طالما هناك زبون يسعى هناك طماع يحصد أموال الناس.
لقد تغيرت سوق العمل فى الخليج العربى وأوروبا ومصر أيضًا.. أبناؤنا يحتاجون الآن إلى تعلم مختلف واكتساب مهارات لا علاقة لها بهذه المسرحية برمتها.. لكن هذا لا يعنى أيضًا أن تستمر الوزارة فى إدارة المسألة بهذا الشكل، عليها أن تراجع التجربة، وأن تحاول تلاشى الأسباب التى حولت الثانوية العامة من مجرد بعبع إلى كارثة مروعة أصابت الطلاب وأولياء الأمور بأمراض نفسية غير محتملة وأصابت ميزانياتهم بالدمار.
لا أعرف لماذا لا تفكر وزارة التعليم العالى فى إلغاء ما يسمى المجموع والتنسيق، وأن تجرى بدلًا عنهما اختبارات قبول.. ولينجح من يريد وتنطبق عليه الشروط المؤهلة.. لماذا لا ننسف فكرة المجموع هذه من الأساس إذا كنا نريد بالفعل تحويل التعليم من الحفظ والتلقين إلى الفهم والوعى والإبداع والابتكار؟
أتمنى أن تكون قضية التعليم أحد محاور الحوار الوطنى المنتظر الذى بدأ مجلس أمنائه فى تحديد الموضوعات التى ستتم مناقشتها أو الحوار من داخلها.. أتمنى أن تنتهى هذه «اللعنة» التى أنهكتنا وصرنا أسرى لها.. ليس لمجرد شهر أو شهرين كما كان يحدث فى السابق.. ولكن لأعوام طويلة متتالية.. لقد فقد معظمنا أعصابه بالفعل.. ومشاحنات البيوت التى وصل بعضها إلى الطلاق أحد أسبابها الأساسية الآن هو الدروس الخصوصية.. والثانوية العامة والتنسيق.. والكليات ومصاريفها.
قضية التعليم ليست رفاهية، هى قضية أمن قومى.. وإذا كنا بدأنا بالفعل فى تجربة التطوير الذى لن ينتهى قريبًا.. علينا أن نراجع الأمر من حين إلى آخر بما يسهل الأمر ويصل بنا إلى الغرض الرئيسى الذى قررنا التطوير من أجله.
أتمنى أن يجلس المسئولون.. وممثلو المجتمع المدنى.. والأحزاب والشخصيات العامة على طاولة واحدة ليناقشوا الأمر بشفافية تامة.. والجميع أصحاب مصلحة.. ليصلوا إلى توصيات جادة قطعًا نحن فى أشد الحاجة إليها الآن.
تسعة أشهر من العام تذهب هباء.. نعيشها فى توتر بالغ ومزعج.. ثلاثة أرباع دخولنا نصرفها على هذا التعليم الذى صار همًا.. وهو فى الوقت نفسه طريقنا إلى أى تغيير حقيقى ننشده.. المسألة ليست رفاهية، والحوار الوطنى فرصة طيبة أعتقد أنها جاءت فى وقتها، فلا تقدم للاقتصاد بدون التقدم فى التعليم.. ولا صحة لمواطنينا من الطلاب وأسرهم بدون اقتناع حقيقى بما نفعله فى تجرية تطوير التعليم التى بدأناها بالفعل وراح بعض أبنائنا ضحايا لها، علينا أن نحول ما نعتقد أنه «خسارة» إلى مكسب حتى وإن كان بعيدًا.. كل تجربة من المؤكد قابلة للنقد والمراجعة والتصحيح.. وكل تجربة جادة أيضًا غالبًا ما تكون مؤلمة وصادمة فى بدايتها.
تهنئتى لكل من نجح.. ولكل من عبر هذه المرحلة، ولمن لم يحالفه التوفيق.. هذه ليست نهاية الكون.. فقد تكون بداية لمستقبل أفضل أنت لم تخطط له.. هى مجرد سنة.. وهو مجرد اختبار، والحياة أوسع وأجمل والقادم أفضل إن شاء الله.