محمد علي إبراهيم: الثقافة المصرية تعاني أزمة شفافية (حوار)
تعقيبا على روايته الأحدث “روح.. كتاب من رأى لمن لن يصدق”، قال أحد القراء للكاتب محمد علي إبراهيم: “إحمد ربنا مرفعتش عليك دعوى حسبة”. ورغم إنه يكتب منذ ثلاثين عاما إلا أنه لم ينشر سوى 10 كتب، استهلها بمجموعته القصصية “تأريخ لا يروق لكم” سنة 2012.
يراكم محمد علي إبراهيم مشروعه الأدبي بروية وتأني، ليترك بصمة تخصه في المشهد الثقافي المصري. حول أهم القضايا الأدبية والثقافية على الساحة، كان لــ “الدستور” هذا اللقاء معه.. وإلى نص الحوار.
ـ بدأت بكتابة الشعر، وقلت أن لديك قصائد لم تنشرها، ستمنحها لدار نشر عندما تحقق هدفًا مؤجلًا في الكتابة، “سأمنح الدار تلك القصائد وقتها لأهديها لبراءتي الأولى"، لماذا خاصمت الشعر وهجرته؟.. وماذا تعني بعبارتك الأخيرة “تلك البراءة التي تمنح الذئب مصداقية الحياة وهو يكتب”؟
خاصمت الشعر وهجرته! أنا أخاصم الأصدقاء بصعوبة بالغة فكيف أفعلها مع الشعر؟، الفكرة بكل شجاعة أن الشعر صنع ديوانًا ضخمًا، تم ممارسة الكثير من الأفكار البنائية، وألعاب اللغة، وأنا عندما أكتب أبحث عن قصيدة تخصني، أشعر أن والت وايتمان ومحمود درويش حاجزين كبيرين أمامي، كيف أتمكن من تجاوزهما شعريًا، بكل وضوح شعرت بالعجز أمامهما، فكان القرار بعدم الكتابة في مجال الشعر.. هكذا ببساطة.
أمّا عن عبارتي بخصوص البراءة؛ أظن البراءة تمنح صاحبها أفقًا واسعًا في الكتابة، البراءة التي تصاحب الذئب قبل أن يكتشف أنه ذئب، وقبل أن يكتشف من حوله ببراءة مماثلة حقيقة إنه ذئب، تمنح الجميع فرصة عظيمة للتعامل معه، بعد أن يكبر الذئب الصغير وتصبح له رؤى وأفكار وأهداف؛ لن يتمتع ببراءته الأولى، لن يستطيع أن يقول لكل امرأة يحبها: أنا أحبك.
ــ خضت مغامرة تجريبية في روايتك الأخيرة “روح”، ألم تخش من ردود فعل القراء؟
أنا كاتب لا جمهور له، هذه هي قناعتي، كل رواية تستدعي جمهورها الذي يخصها، لكن دعيني أغير السؤال قليلًا، لنقل مغامرة فكرية وليست تجريبية، ولن أدَّعي البطولة، لأنها بلا مقابل في واقع الأمر، “روح” رواية مربكة وتتعدى على الكثير من خصوصيات التفكير الجمعي الشرقي وليس المصري فقط، كما ذكرت سابقًا بأنني كنت أخطط لطباعتها بعد أن أأخذ قرارًا بالتوقف عن الكتابة الروائية، لكن يبدو أن للمشيئة سلطة آسرة، دون مبالغة وجدت ثلاثة أصدقاء يقررون نشرها، فقررت أن أمارس نفس اللعبة، أن أصبح جزءًا ساكنًا من الطبيعة وأتركهم يمررونها للمطبعة.
كانت وما زالت الردود حول الرواية أفضل مما توقعت بكثير، لكن ودعيني أصارحك أنه هناك رد واحد أصابني بالانزعاج، وبالرغبة في القيء، قال لي قاريء بكلمات واضحة: إحمد ربنا مرفعتش عليك دعوى حسبة.
ــ قلت أن الكتابة مسئولية، هل يفسر هذا قلة أعمالك والفترات الطويلة التي تفصل بينها؟
الكتابة مسئولية، بل كنت أتمنى أن أعتبرها فعلًا مقدسًا، أنا أكتب منذ ثلاثين عامًا على وجه التقريب، لدي 10 كتب مطبوعة بين الشعر والقصة والرواية، تقريبًا بمعدل كتاب كل ثلاث سنوات، أظنه معدلًا جيدًا قد يرتفع إلى كتاب كل عامين وهذا رقم عادل جدًا، كل كتاب يحتاج إلى فترة في التحضير و"المذاكرة" ثم الكتابة على عدة مراحل حتى أصل لصورته الأخيرة، كما أنني لا أقتات بالكتابة، عملي يأخذ مني وقتًا كبيرًا، أتمنى أن أتمكن من جني أموال وفيرة والتفرغ للكتابة فقط، سأتمكن وقتها من تقديم كتاب كل عام ونصف.
ــ لماذا اخترت القصة القصيرة قبل أن تتحول إلى كتابة الرواية رغم الإقبال الأكثر على الأخيرة؟
لم أختر شيئًا، كنت مراهقًا أبحث عن قوالب للكتابة، كتبت الشعر أولًا، وقلت لماذا لا أجرب القصة القصيرة، قصتي الثالثة كان اسمها "المقهى"، هي من قادتني للتعرف على محمد مستجاب الكبير، أعجبته القصة بشكل كبير، في الحقيقة بأكثر مما أعجبتني، قال لي: استمر، لا تتوقف..
أعتقد أن هذه الليلة كانت مفصلية في علاقتي بالكتابة، وبدأت بعدها علاقتي الحقيقية مع الكتابة القصصية، تلك الفترة كانت تقريبًا في عام 1993 أو 1994، لم تكن الرواية بهذا الوضع في الاقبال، ولم أكن مشغولًا بفكرة طباعة كتاب أو شهرة مؤقتة، لم أكن أتوقع أن أكتب روايات، كنت أخطط لتجاوز يحيى الطاهر عبد الله ومحمد مستجاب، هذا فقط ما كان يشغلني وقتها..
ــ شهد العقدين الأخيرين من الألفية الثانية انتشاراً ورواجا ملحوظا لفن الرواية. هل ترى أن الرواية صارت ديوان العرب المعاصر؟
الرواية أصبحت "كتاب" العرب والعالم المعاصر أيضًا، هذا بقانون "الكم"، لكن بقانون "الكيف" ربما يربح الشعر أو القصة القصيرة، التي شهدت تطورًا واضحًا خلال الأعوام الأخيرة.
ــ هل تعاني الساحة الثقافية المصرية من أزمة نقد ولماذا؟ وكيف ترى دور الناقد في العملية الإبداعية؟
تعاني الثقافة المصرية من أزمة شفافية، سطوة وانتشار الجوائز المتعددة منحها دور الناقد الأكثر حضورًا، أصبحنا ننتظر بيانات لجان التحكيم لنعرف رأيهم عن الروايات المتنافسة، النقد عملية مستقلة عن الكتابة الإبداعية، على النقد أن يصبح أكثر وعيًا بدوره، القيام بتحليل نص جديد بعيدًا عن قوالب نقدية تم بناؤها كنتيجة لقراءة روايات قديمة.
ــ ما رأيك في "موضات" القراءة والكتابة، بمعني في فترة ما سادت وانتشرت روايات الرعب، وفي فترة لاحقة ظهرت الروايات التاريخية بكثافة، هل توقفت عند هذه الظاهرة وكيف تحللها؟
الرواية رواية فقط، الرعب والتاريخي والرومانسي والديستوبيا أعتقد أنها ألفاظ ترتبط بجيل القراء الحالي، ربما هذا التصنيف يمنحهم سهولة في اختيار ما يناسبهم ويلائم ذائقتهم.
أوافق جدًا على انتشار القراءة حتى وإن كانت "موضة"، أمَّا الكتابة فهي قادرة على غربلة المنتج النهائي بسطوة الزمن ورسوخ الأفكار.
ــ لمن يقرأ محمد علي إبراهيم ولا يفوت عمل له؟
بجاذبية العلاقة التي تجمعني بمصطفى جوهر فهو الذي لا أستطيع تفويت أي كتاب له، لا بد أن أكون قارءه الأول، من الراحلين يحيى الطاهر عبد الله ومحمد مستجاب الكبير ومحمود درويش والت وايتمان ومحمد حسنين هيكل، وحاليًا ما تيسر من كتابات الراحلة فرجينيا وولف، في الكتاب المعاصرين عزت القمحاوي وأحمد الملواني ومحمد الفخراني، في الشعر حسن عامر ومحمد القليني وأحمد المريخي وآلاء فودة ورضا أحمد، في القصة حسن عبد الموجود وأحمد حلمي، في النقد أحب وجهة نظر حنان ماهر النقدية.
ــ ماذا تعني لك الجوائز؟ وهل تكتب عملا ما وعينك على جائزة بعينها؟
الجوائز تحمل بداخلها تقديرًا لما كتبته عندما يوافق ذائقة المحكمين، ما زلت سعيدًا بما ذكرته لجنة التحكيم عن أسباب منحها جائزة جمال الغيطاني لروايتي "حجر بيت خلاف"، كما أن التواجد في القائمة القصيرة لجائزة بحجم ومكانة جائزة نجيب محفوظ التي تمنحها الجامعة الأمريكية منحني انتشارًا غير متوقع على المستوى القرائي، والجوائز وسيلة مهمة لجني الأموال.
لم ولن أتورط في كتابة شيء بدافع الحصول على جائزة، كما أدين بالكثير للمبدع الكبير عزت القمحاوي عندما جمعنا لقاء وتحدثنا عن الجوائز، تعلمتُ منه كيف يمكنك أن تتخير جائزة لتقدم نصك الإبداعي، وتعلمت منه فكرة التحرر من عبء الجوائز.
ــ ما أقرب بيت شعر إلى قلبك وهل ينطبق على موقف من حياتك؟
قُلْ للمُحِبِّ إذا تهتَّكَ في الهوى/ إنَّ التهتُّكَ في الغرامِ مباحُ.
حياتي كلها بين شطري هذا البيت الشعري.
ــ ما أغرب موقف قابلته في الوسط الثقافي؟
في معرض الكتاب، وجدتُ كاتبًا شابًا لا أعرفه، في الحقيقة هو غير معروف في الوسط الأدبي، يقف بين الممرات ويوقِف المارة ليحدثهم عن روايته ويطلب منهم أن يأتوا معه ليشتروا الرواية من منفذ توزيعها.
ــ من هو أقرب أبطال رواياتك/ قصصك لك.. وما قصته ولماذا؟
سؤال صعب، ربما يكون سؤالًا مرعبًا، أبطالي ورقيون، فعندما تسأليني عن قصته فهذا يعني أنه تخطى حاجز الورق وأصبح متشيئًا لكِ، هل هناك جائزة أعظم من تلك؟
ــ هل هناك شخصية في فيلم مفضلة لك؟ ولماذا؟
مارلون براندو في الجزء الأول من الأب الروحي، ما هذه العظمة، أنا وقعت في أسر هذا الأداء ولا أحب الفكاك منه.
ــ هل لك موقف مع كاتب أو فنان كبير تذكره دائما؟ ما هو؟
الأساتذة الكبار درويش الأسيوطي وسعد عبد الرحمن والراحل أنور جعفر، كانوا يحملون أكياسًا من الكتب ويمنحونها لي، مدين لهم بكل شيء جيد أحاول أن أصنعه.
ــ ما هي القصة التي تحلم بكتابتها يومًا ما؟
الحكاية الإنسانية لمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب.
ــ لو معك تذكرتين سينما من تدعوه من شخصيات تاريخية؟ ولماذا؟
تذكرة السينما للحبيبة، الشخصيات التاريخية يجدر الاحتفاء بمصاحبتها على مقهى قديم، ربما كنت سأطلب لقاء هتلر، لأنني أرغب في محاورته بصدق.
ــ إذا كتبت قصة من سطر واحد عن الموت كيف ستكون؟
كيف استطاع الموت إقناع بثينة بالسفر معه.
ــ هل تعترف بقاعدة "أكتب عما تعرفه" أم أن المبدع من حقه خوض آفاق تجريبية حتى لو لم يعرفها؟
الحمد لله الذي جعلني لا أعرف تلك القاعدة، أنا أكتب عن أسئلة تشغلني، مصطلح "التجريب" أصبح مقلقًا، وكأنه تهمة صغيرة، أو فخ حتى لا يتشجع القراء ويتناولون الكتاب.
ــ بين الكتاب الورقي والإلكتروني أيهما الأقرب إليك ولماذا؟ وهل الكتاب الورقي في طريقه للزوال؟
أنا ابن لفترة زمنية لا تعرف سوى الورق، الكتاب الالكتروني نتاج للتطور، لست معنيًا بصمود أو زوال الكتاب الورقي، أنا مهتم فقط باستمرارية وجود "الكتاب".
ــ هل عانيت صعوبات في أول طريقك مع النشر؟
الصعوبات كانت مع نفسي فقط، لم أكن أرى جدوى من عملية النشر، في عام 2000 كان لدي مجموعتان قصصيتان ورواية، لم أنشر سوى عام 2011، وكانت دار النشر تخصني.
ــ العديد من الأعمال الأدبية تحولت إلى الدراما المرئية كيف ترى الأمر؟ وهل تحول الخيال المقروء إلى مشاهد مرئية يضيف أم يضر بالعمل الأدبي ولماذا؟
تحويل العمل الروائي أو القصصي إلى عمل درامي مرئي ليس جديدًا، لكن "انتشار الأفكار وربما المطامع" لدى الكاتب لتحويل عمله جعل هناك مساحة كبيرة من الكتابة البصرية بداخل العمل الورقي، من يفعلها بوعي يضيف كثيرًا للعمل الإبداعي، ويمكننا الاستشهاد بالمشاهد البصرية الرائعة التي كتبها محمد الفخراني في روايته الأخيرة "لا تمت قبل أن تحب".
ــ ما رأيك في "جروبات" القراءة وهل تضيف إلى الحراك الثقافي أم هي فقاعة صنعتها السوشيال ميديا؟
"فكرة" جروب القراءة مهمة وعظيمة، لكن كيفية إدارتها تصنع للأسف "من الفسيخ شربات"، ما يحدث هو ضريبة ندفعها للحصول على خدمات السوشيال ميديا، لكن يسهل الفكاك منها، يوجد زرار عظيم اسمه "مغادرة المجموعة".
ــ هل تصنع ورش الكتابة الأدبية كاتبا حقيقيا أم أنها مجرد ظاهرة من ظواهر الحياة الثقافية التي تظهر وتختفي بين الحين والآخر؟
هناك ورش جيدة لتعلم النجارة والسباكة والكليم اليدوي، أعتقد البعض أن الكتابة نوع من الوجاهة الاجتماعية، ووجدوا من يقنعهم بقدرته على جعلهم كتابًا حقيقيين.
ــ هل تعكف على عمل أدبي جديد؟.. حدثنا عنه وعن تفاصيله.
رواية اسمها المتوقع "الإسرائيلية"، التفاصيل تتبدل كل لحظة، ربما نكتشفها معًا عند الانتهاء منها، ستكون رواية تجمع ميشيل جيد عبد المسيح من سكان مدينة ملوي بمحافظة المنيا بيائيل ميشيتنر برودسكي من سكان مدينة نتسيرت عيليت.
ـ مع انتشار الصالونات الأدبية، هل تثري الحركة الثقافية بالفعل أم أنها مجرد ظاهرة من ظواهر الحياة الثقافية التي تظهر وتختفي بين الحين والآخر؟ وكيف تري الفارق بين الصالونات الأدبية قديما وحاليا ؟
أحب الصالونات الأدبية على اختلاف أماكنها وروادها، نقوم بعمل صالون مصغر على مقهى بوسط البلد كل يوم خميس، رواد الصالون ثلاثة أصدقاء، لم أحضر الصالونات الكبرى، أعتقد أو أتخيل أنها كانت جلسات مدهشة وعميقة.
ــ بين الهندسة والأدب أيهما تجد نفسك؟
أجد نفسي كاتبًا مهندسًا، أهتم بهندسة الرواية وبنائها، وأجد نفسي مهندسًا مبدعًا، أهتم بالبحث عن أفكار وأساليب جديدة في التعامل مع مشكلات العمل اليومي.
ـ كيف ترى دور الفن والثقافة والقوى الناعمة في عمومها، في القضاء على الأفكار المتشددة؟
دور الفن والثقافة هو طرح الأسئلة، الأسئلة الخصبة هي التي تتكفل بتحريك البحيرات الساكنة، لقد ذكرتِ الإجابة داخل سؤالك، لقد قلتِ "الأفكار"؛ الفكرة تحتاج إلى فكرة مضادة وناعمة، لن يحدث هذا سوى بكتابات جادة، وزارة الثقافة عليها دور ضخم، سعيد بفكرة السينما للجميع، أتمنى أن ينتشر المسرح أيضًا، الالتزام بحصة للقراءة داخل المدارس.