كاملة أبوذكرى.. الموهوبة الواعية
صاحبة كاميرا تعرف كيف تقدم للمشاهد كل ما تريده بأسلوب مميز
نجحت فى تحويل «السقا» من الأكشن إلى الرومانسية فى «عن العشق والهوى»
«سنة أولى نصب» كشف عن إمكاناتها الكبيرة وأكد أنها صاحبة رؤية
اعتمدت على الإبهار بالصورة فى «ملك وكتابة» دون الحاجة للحوار
منذ إعلان مهرجان القاهرة السينمائى الدولى عن منح المخرجة كاملة أبوذكرى جائزة فاتن حمامة للتميز فى دورته المقبلة، توالت موجات الترحيب من النقاد والجمهور، نظرًا لتقديمها عددًا من الأفلام القيمة، اللافت فى مشوارها بالفعل هو التنوع فى نوعية أفلامها مع بلوغها درجة عالية من الإتقان والجودة، تخرجت أبوذكرى فى المعهد العالى للسينما، وبدأت مشوارها كمساعد مخرج فى عدة أفلام شهيرة مثل: امرأة هزت عرش مصر، ١٣١ أشغال، حسن اللول، بلية ودماغه العالية، هاللو أمريكا، جحيم تحت الأرض مع المخرج نادر جلال، «الساحر» مع رضوان الكاشف، «اللمبى» مع وائل حمدى، قبل أن تقدم للسينما ٥ أفلام متميزة أثبتت وجود مخرجة موهوبة تزداد نضجًا وتمكنًا مع كل فيلم جديد، بالإضافة إلى قدرتها على اختيار معالجات جذابة مفعمة بالمشاعر، وصياغتها بأسلوب سردى معبّر وغير تقليدى.
هو أول أفلامها الروائية الطويلة من بطولة أحمد عز، خالد سليم، نور، وداليا البحيرى، يدور الفيلم حول شابين عاطلين هما أحمد وخالد «أحمد عز، وخالد سليم»، يقرران احتراف النصب عن طريق استغلال السائحات الأجنبيات كبار السن، قبل تعرفهما على نور وداليا «نور، وداليا البحيرى» وارتباطهما بقصة حب تدفعهما للإقلاع عن النصب والمشاركة فى مشروع سياحى بتمويل من رجل الأعمال حسن «حسن حسنى».. ربما لم ينبّئ هذا الفيلم بالإمكانات الكبيرة لمخرجته، لكنها قدمت فى النهاية فيلمًا خفيفًا مسليًا بالرغم من تقليدية القصة وعدم واقعية دوافع بعض الشخصيات مثل شخصية حسن، الذى يبادر بمساعدة شابين ودعم مشروعهما ماليًا رغم قيامهما بالنصب عليه.
من بطولة محمود حميدة، خالد أبوالنجا وهند صبرى، قدمت كاملة أبوذكرى ثانى أفلامها الروائية حول محمود الأستاذ الجامعى «محمود حميدة» الذى يكتشف خيانة زوجته سعاد «عايدة رياض»، فتنقلب حياته رأسًا على عقب، ويعيد مراجعة نفسه وحياته، قبل أن يقع فى حب هند، تلك الفتاة المتمردة «هند صبرى»، التى تنجح فى مساعدته على إعادة اكتشاف حياته مرة أخرى.
قدمت كاملة أبوذكرى نفسها من خلال هذا الفيلم كمخرجة متمكنة صاحبة رؤية، حيث أجادت من اللقطات الأولى تجسيد عالم الدكتور محمود من خلال زرع المنزل المهمل للإيحاء بالموت الذى يسكنه، واستعراض شهادات التخرج والتقدير للدلالة على أننا سنرى شخصية متحققة لها مكانة، ثم نسمع صوته الذى يعبر بشكل مركز عن هويته وهوية زوجته التى نراها تتحرك فى شكل آلى دون تبادل أى حديث أو نظرات مع محمود، دلالة على جفاف العلاقة بينهما، خاصة الجنسية، حيث نلاحظ تعبير الامتعاض على وجهها فور استيقاظها إلى جوار محمود.
ننتقل بعدها إلى مشاهدة محمود أثناء دخوله قاعة المحاضرات وكيف يلهث الطلبة للحاق بالمحاضرة قبل دخوله إليها فى لقطة تجسد كم الصرامة التى تميزه، وهو ما نراه فى أكثر من موقف لاحق مثل توبيخ طالب على اجتهاده بقوله «لسه بدرى عليك عشان يكون لك رأى»، بالإضافة إلى تعنته ضد طالبة أخرى هى ناهد «راندا البحيرى» قبل أن يصطدم بهند «هند صبرى» بسبب انتقادها اللاذع طريقة تدريسه.
نحن إذن أمام كاميرا واعية تعرف تمامًا كيف تقدم للمشاهد كل ما تريده بأسلوب سينمائى بعيدًا عن أى حوار مصاحب، حيث جسدت اللقطات الأولى أننا أمام زوجين ناضجين ومتحققين، تتسم علاقتهما بالبرود التام والانغلاق الكامل- لاحظ لقطة دخولنا المنزل عبر الشباك المغلق والستائر المنسدلة- وسريعًا نكتشف خيانة الزوجة فى مشهد جيد من حيث التكنيك، نرى من خلاله نظرات الزوجين دون أى تعليق أو حوار، كما جاء اختيارًا صائبًا كنقطة تحول جذرية فى حياة الدكتور محمود يعيد من خلالها حساباته ونظرته للحياة، وهو ما تدفعه إليه هند تلك الفتاة بالغة التحرر والتمرد.
يفاجأ بفشله التام فى أداء مشهد بسيط بالرغم من كونه أستاذ تمثيل، وهو ما يؤكد له حالة الانفصال التى يعانيها بينه وبين واقعه وقدراته وطموحه، قبل أن تدربه هند على أداء مشهد جديد ينجح فى تأديته حيث يشبه تجربته مع خيانة زوجته، لينتهى الفيلم بتغير مسار الشخصيتين، وهو ما تطلبه الدراما القوية التى تنتهى بشخصياتها نحو مسار مغاير لما بدأته، تأكيدًا أن الحياة مثل الملك والكتابة لها وجهان، هما الشكل والمضمون الذى سعى أبطال الفيلم إلى تحقيقه بشكل متوازن.
من بطولة أحمد السقا، منة شلبى، منى زكى، وغادة عبدالرازق، قدمت كاملة أبوذكرى فيلمها الثالث عن العشق والهوى، أول نص يقدمه تامر حبيب بعد نجاح فيلمه الأشهر «سهر الليالى»، بداية سنجد أنفسنا أمام اختيار جرىء، وهو أحمد السقا المشهور فى ذلك الوقت بتقديم أفلام الأكشن، هنا تقدمه المخرجة كممثل حقيقى، حيث يخلو الفيلم تمامًا من مشاهد الأكشن لأى من أبطاله.
فى هذا الفيلم نحن أمام علاقات متشابكة يتميز أصحابها بواقعيتهم وكذلك واقعية ما يمرون به من تجارب متنوعة، عمر الشاب الثرى «أحمد السقا» الذى يحب عالية «منى زكى»، لكن يضطر إلى إنهاء علاقته بها بضغط من عائلته بعد اكتشاف سلوك أختها فاطمة «غادة عبدالرازق»، ترتبط عالية بجارها أشرف «مجدى كامل» قبل أن تنفصل عنه بسبب إدمانه الهيروين، كما يقع عمر فى حب سلمى «منة شلبى» التى يتزوجها رغم زواجه من قسمت «بشرى»، التى يصرح أخوه مراد «طارق لطفى» بحبه لها.
المدهش فى هذا الفيلم هو تشابك علاقات أبطاله بشكل محكم ونجاح النص الرقيق لتامر حبيب فى التعبير عن أزماتهم، لتجد نفسك كمشاهد متعاطفًا معهم جميعًا، إذ يمرون بمشاعر متناقضة، ولديهم نقاط ضعف، تضطر على إثرها أن تتراخى فى أوقات ما، وهو ما نشاهده من تخلى «عمر» عن «عالية»، وافتقاده الحب مع قسمت الذى يبرر وقوعه فى حب سلمى.
نتعاطف أيضًا مع عالية التى ترضخ للارتباط بأشرف نتيجة حبه الشديد لها، واحتياجها للإشباع العاطفى بعد تخلى عمر عنها، الذى نتعاطف معه أيضًا بسبب ضغط عائلته للتخلى عن عالية، نظرًا لسوء سلوك أختها فاطمة أو بطة بطاطس، التى لا نفقد التعاطف معها هى الأخرى بسبب اضطرارها للانحراف بسبب ظروفها المادية وافتقادها للأمان المادى والعاطفى.
نحن إذن أمام بشر حقيقيين، شخصيات من لحم ودم نتفق معهم أحيانًا ونختلف مع اختياراتهم أحيانًا أخرى، نجحت كاملة أبوذكرى فى تقديم فيلم رومانسى عاطفى وفى نفس الوقت واقعى تمامًا ومسلى، قدمت شخصياته ودوافعهم بشكل قوى ومحكم، كما نجحت فى تكثيف الأحداث وإدارة زمن الفيلم، وإدارة الممثلين أيضًا الذين قدموا أفضل ما لديهم، خاصة منى زكى ومنة شلبى وغادة عبدالرازق وأحمد السقا.
مفتاح هذا الفيلم هو الواقعية، حيث يشتبك مع قضايا شائكة من خلال عدد من الشخصيات المكتوبة بشكل بالغ الجودة والعمق من قبل مريم ناعوم، لدينا نيفين السيدة المسيحية التى تحارب للحصول على الطلاق «إلهام شاهين» والمرتبطة بمذيع شاب هو شريف «خالد أبوالنجا»، أيضًا لدينا عادل «أحمد الفيشاوى» الكوافير الذى يلجأ لاستقطاب الزبائن بطرق ملتوية، وحبيبته السابقة نادية «زينة» المغنية محدودة الموهبة، وأختها ريهام الممرضة «نيللى كريم»، الفتاة البسيطة التى تعانى الفقر مقابل تمسكها بمبادئها.
يطرح الفيلم بجرأة شديدة قضايا حساسة مثل الطلاق لدى المسيحيين، والتحرش الجنسى فى المواصلات، وتنازلات المطربات محدودات الموهبة، والمدهش هنا هو تقديم شرائح مختلفة من المجتمع المصرى بتعمق جيد على خلفية مباراة لمصر تنتهى بفوزها، لا نرى فى الفيلم ميلودراما صارخة أو استجداءً لتعاطف، بل ولمرة أخرى شخصيات واقعية تمامًا من لحم ودم، ربما يجمع بينهم القهر، سواء نيفين التى تجد نفسها مجبرة على تغيير ديانتها للحصول على حقها بالانفصال عن رجل لا تريد استكمال الحياة معه، أو ريهام التى يتم قهرها لمجرد لقائها حبيبها، وهدى أم عادل «انتصار» التى تتعرض للقهر من ابنها عادل تارة ومن الزبائن تارة أخرى، مما يدفعها للاستسلام للتحرش، كذلك نادية أو نينا التى يقهرها المذيع شريف «خالد أبوالنجا» علنًا على شاشة برنامجه، ويعايرها بضعف موهبتها والذى يعانى هو من قهر آخر بسبب التفاوت الطبقى بينه وبين حبيبته نيفين التى يعجز عن الارتباط بها.
شخصيات تبحث عن الأمان وتفتقد السلام النفسى، تعانى مشكلات حقيقية تؤكد أننا أمام مخرجة صاحبة هم حقيقى، حيث تسلط الضوء على مواطن العلل وهى وظيفة الفن الحقيقية وليس تقديم حلول كما يدعى البعض.
فى هذا الفيلم نجحت المخرجة فى تقديم واقع حالات صادمة دون أن يفتقد متعة المشاهدة، كما قدمت مشاهد ثرية ومعبرة، مثل مشهد ريهام فى المحل باهظ الثمن حين تفاجأ بأسعاره التى لا تستطيع مجاراتها، وكذلك مشهد ضعف هدى التى تخضع للتحرش نتيجة شعورها بالقهر والعجز لما تواجهه من قسوة ابنها وزبائنها.
استخدمت المخرجة الكاميرا المحمولة لإضفاء المزيد من الواقعية على أحداثه، كما تميزت بإيقاع سريع ومتدفق حال دون أن يشعر المشاهد بنوع من التشتت بين شخصيات الفيلم وقضاياهم، كما وضح حسن إدارة الممثلين الذين قدموا أداءً جيدًا خاصة إلهام شاهين ونيللى كريم، بينما قدم خالد أبوالنجا أداء نمطيًا محدودًا يتطابق مع تقديمه عددًا من الشخصيات التى أداها فى أعمال أخرى.
هو آخر أفلام كاملة أبوذكرى حتى كتابة هذه السطور، من بطولة إلهام شاهين، نيللى كريم، ناهد السباعى، فاروق الفيشاوى، محمود حميدة، وأحمد الفيشاوى، يدور الفيلم حول إحدى المناطق الشعبية التى يتم افتتاح حمام سباحة بالقرب منها مع تخصيص يوم للسيدات، تتعرض المخرجة هذه المرة لطبقة محددة هى الشعبية التى تجد فى حمام السباحة متنفسًا لهمومها، ومشكلاتها المزمنة، فنرى ليلى «نيللى كريم» المصابة بالاكتئاب بسبب وفاة زوجها فى حادث غرق العبارة الشهير، وأخاها على «أحمد الفيشاوى» المتطرف الذى يستولى على أموالها بالقوة، وفرغلى «فاروق الفيشاوى» الأب الغارق فى الإدمان.
ربما يتفوق فيلما «ملك وكتابة، وواحد صفر» سينمائيًا على هذا الفيلم، حيث عبرت الصورة فيهما بشكل أكثر بلاغة وأكثر قربًا من روح السينما عكس «يوم للستات» الذى قدم مشكلات شخصياته عن طريق الحوار، كما شاب الفيلم بعض المبالغات، مثل المشهد بين فرغلى وابنه الذى تعدى عليه بالسباب ليطلب منه الأب أن يضربه.
يقدم الفيلم الحارة المصرية الحديثة بشكل قاتم، مجسدًا ما وصلت إليه من انهيار أخلاقى وغرق فى الهمجية والعشوائية والمخدرات، بينما استخدم حمام السباحة ليكون النقيض الشكلى والموضوعى كأداة تكشف عن العمق الإنسانى للشخصيات التى تعيش هذا الواقع الموحش وتتمسك بالحياة رغم ظروفها الصعبة، وهو ما جسدته المخرجة بلقطات شاعرية معبرة، وكذلك باندماج أهل الحارة خاصة سيداته اللاتى يتبادلن حوله الحكايات والضحك، حيث يظهرن أقوى وأصدق من شخصيات الرجال فى الفيلم، خاصة شخصية على الذى قُدم بشكل أحادى غاضب طوال الوقت دون تعمق فى دوافعه أو كشف جوانب أعمق فى شخصيته، قبل أن يختفى فجأة من الأحداث، لكن يُحسب للفيلم محاولة تقديم صورة واقعية صادقة عن طبقة تستجدى الاستمتاع بالحياة فى خضم ما تعانيه من ضغوط ومشكلات، تحاول أن تتخلص منها فى مياه حمام السباحة الذى صاغه الفيلم بشكل جذاب ومبتكر كرمز للسعادة المفقودة داخل هذه الطبقة.