بروفايل .
يوسف إدريس.. ملك القصة القصيرة الذي تحيز للقرية وملح الأرض
تحل اليوم ذكرى وفاة عراب القصة القصيرة الأديب المصري الكبير يوسف إدريس، الذي وافته المنية فى ١ أغسطس عام ١٩٩١ عن عمر ناهز ٦٤ عاما.
ورغم أن يوسف إدريس تخلى عن عمله كطبيب عام ١٩٦٠ ليعمل محررا صحفيا بجريدة الجمهورية، كي يتمكن من التفرغ للعمل الأدبي إلا أن مهنة الطب انعكست على كتاباته، ليس لأن أبطاله كانوا أطباء، فهو لم يفعل ذلك، بل لقدرته الفائقة على تشريح النفس البشرية من خلال حروفه، وساعده فى ذلك عمله كطبيب نفسي، استطاع أن يدخل إلى عمق الشخصية، فيرى ما يختلج بداخلها من صراعات نفسية نتجت عن واقع أثر فيها من جوانب متعددة.
أهم روايات يوسف إدريس
“الحرام والعيب” هما أهم روايات يوسف إدريس، وكلاهما يدخل فى عمق الشخصية المصرية ويناقش قضايا محورية، وإن اختلفت الأمكنة.
في “الحرام” التي صدرت عام ١٩٥٩ عن دار الهلال، توجه إدريس إلى الريف المصري، ليشرحه تشريحا سيكولوجيا وسوسيولجيا دقيقا من خلال عمال الترحيلة "الغرابوة" حيث رصد معاناة فئة مهمشة من فئات الشعب المصري، كما ناقش الطبقية الموجودة فى الريف التي جعلت من المرأة الكادحة التى خرجت لتأتي بجذر البطاطا لزوجها المعدم المريض تتعرض للاغتصاب من قبل ابن كبير القرية، ولم يكن إدريس يقصد من روايته “الحرام” اغتصاب امرأة مهمشة، بل كان يقصد اغتصاب طبقة مهمشة.
ويحسب ليوسف إدريس فى روايته “الحرام” أنه بدأ بالعقدة مباشرة، حيث بطلة الرواية وهى تلد جنينها وحيدة فى إعياء شديد، ثم تتركه على القش وتفر هاربة، لتبدأ الأحداث في التصاعد من هي أم الطفل اللقيط؟
يستعرض يوسف إدريس أحوال الناس فى الريف بطريقة تشويقة بديعة. مما دفع رواد السينما لتحويل الرواية إلى فيلم سينمائي، قامت ببطولته سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة. ليكون هذا الفيلم الذي أخرجه هنري بركات عام ١٩٦٥ من علامات السينما المصرية، كما تظل عبارة "والسبب جدر البطاطا يا ضنايا" من أشهر إفيهات السينما المصرية.
أما رواية “العيب” والتى تدور حول فكرة الضغوط النفسية التى يتعرض أبناء الطبقة الدنيا فينهزمون أمامها، فكانت أيضا من الروايات الهامة ليوسف إدريس، حيث سناء التي تعد أيقونة للشرف والمبادىء فتجبرها الظروف على قبول الرشوة. كما تطرق يوسف إدريس للفساد الوظيفى فى مصر، وكأنه يدق ناقوس الخطر مستشرفا لما هو ٱت.
وتحولت رواية “العيب” إلى فيلم سينمائى قدمت فيه دور البطولة الفنانة القديرة لبنى عبد العزيز وأخرجه جلال الشرقاوي عام ١٩٦٧.
يوسف إدريس ملك القصة القصيرة
يعد يوسف إدريس هو عراب أو ملك القصة القصيرة في الوطن العربي، ذلك لأنه أجاد كتابتها بصورة فائقة، واستطاع من خلال سطور قليلة أن يصل إلى مراده بحبكة درامية تحتاج إلى قدرة إبداعية، تفوق مثيلتها فى الرواية التى تتميز بكثرة الشخوص والأمكنة والأزمنة.
واستطاع يوسف إدريس من خلال قصصه القصيرة مثل “أرخص ليالي” و"قاع المدينة" و"نظرة" وغيرهم من القصص البديعة، أن ينفذ ويتغلغل داخل الشخصية المصرية، ويرصد أبعادها بشكل مغاير.
ففي “أرخص ليالي” يحكى عن الفلاح الفقير الذي لا يجد متعة أو تسلية فى حياته البائسة سوى جسد زوجته. تلك هي المتعة التي لا تكلفه مالا فهو في الأساس لا يملكه. ونتج عن هذه الليالى غير المكلفة أطفالا كثر.
أما فى قاع المدينة فيضع إدريس ساقا على عتبة الطبقة العليا المتمثلة في القاضي، وساقا أخرى على عتبة الطبقة الدنيا التى تمثلت فى “شهرت”. وهنا يستخدم إدريس مشرط الطبيب البارع فى تشريح الطبقتين حسب رؤى وفكر كل طبقة.
أما في قصة “نظرة” التي جاءت فى سطور قليلة، والتى وقعت أحداثها فى الحارة المصرية، استطاع إدريس ببراعة شديدة أن يرصد دوامة المدينة، التى ابتلعت طفولة الصبية الخادمة التى تحمل الصينية لتذهب بها إلى سيدتها وهي تنظر إلى أقرانها من أبناء الطبقة العليا وهم يلعبون الكرة.
ويمكننا القول إن يوسف إدريس كان أديبا مستشرفا للمستقبل من خلال الاعتماد على الحاضر والعودة إلى الماضي كمرجعية تاريخية، لذا ناقش قضية الطبقات فى المجتمع المصرية، وكان بطبيعة الحال منحازا لطبقة المهمشين والضعفاء كي يرتقي بهم، ربما كان ذلك سبب بقاء كتابات يوسف إدريس حية، وكأنها كتبت اليوم رغم مرور ٣١ عاما على وفاته.
القرية في مؤلفات يوسف إدريس
تأثر يوسف إدريس بكونه ريفي ولد في قرية البيروم بمركز فاقوس بمحافظة الشرقية فى ١٩ مايو ١٩٢٧،حيث عاش فيها سنواته الأولى بصحبة جدته. ورغم قصر هذه الفترة إلا أن إدريس الطفل الذى طاف بعينى المبدع فى دروب القرية فعاش كل تفاصيلها، ظل متربعا في قلب إدريس الأديب، فاحتلت القرية جزءا كبيرا ومهما في كتاباته.
الصورة عند يوسف إدريس
كثيرون هم الذين يكتبون الأدب، قليلون هم الذين يجيدون تصوير المشاهد التى يكتبونها، بطريقة تجعلك ترى وأنت تقرأ وكان يوسف إدريس واحدا من الصنف الثاني البارع فى رسم المشهد وجذب القارئ ليكون واحدا من شخوصه.