«الجماعة الإسلامية» واستمرار الرقص مع الشيطان!
(1)
فى بدء التسعينيات، بينما كنت أصلى الجمعة خارج المسجد الصغير بشارع الحسينى بمدينة المنيا، وبمجرد الانتهاء من الصلاة فوجئتُ بتدافع عشرات المصلين لمحاولة مصافحة من تصادف وجوده بجوارى وألسنتهم تلهثُ بالترحيب به ونطق اسمه (الشيخ أسامة). علمتُ أن هذا الرجل ضخم البنيان كث اللحية لم يكن إلا أسامة حافظ عضو الجماعة الإسلامية والمدان فى جريمة أسيوط عام 1981م والخارج لتوه من السجن!
منذ تكوين الجماعة الإسلامية عام 1972م وحتى يناير 2011م وقرار الجماعة بممارسة السياسة وتكوين حزبها (البناء والتنمية)، اكتظ سجلها بعشرات الجرائم الإرهابية الدموية. ثم كانت ثورة يونيو فأظهر كثيرٌ من قادة الجماعة التاريخيين وجها مخالفا لما توسمه المصريون منذ تكوين الجماعة لحزبها. حتى كان آخر المشاهد برفع الولايات المتحدة للجماعة من قوائم الإرهاب.
وبين مشاهد البداية وآخر المشاهد، كانت هناك عدة مراحل حاسمة فى تاريخ تلك الجماعة. وأنا لا أكتب هذا المقال استرجاعا لذلك التاريخ، وإنما لمحاولة الإجابة عن التساؤل الأهم، هل حقا غيرت الجماعة عقائدها وتبرأتْ من جرائمها، أم أنها غيرت مسلكها لأسبابٍ تخص منطق المكسب والخسارة، وقررت التعامل مع المصريين بمنطق المهادنة إلى حين؟
قبل أن أقدم الإجابة التى أتيتُ بها من وثائق الجماعة التى كتبها قادة ومفكرو ومنظرو الجماعة أنفسهم على صفحتها الرسمية، ربما يكون من تمام الفائدة للأجيال التى لم تعاصر ما اقترفه أعضاء تلك الجماعة أن ألقى بعض الضوء على بعض المشاهد الهامة فى تاريخها.
(2)
كان عام 1972م هو البداية بانضمام بعض طلاب جامعة أسيوط مثل صلاح هاشم لما يسمى باللجنة الدينية الواقعة ساعتها تحت سيطرة طلاب الإخوان والتى نشطت داخل وخارج أسوار الجامعة. ثم وفى عام 1975م قرر بعض أعضاء اللجنة تكوين مجموعة خاصة بهم تحت مسمى (الجماعة الإسلامية) تباركا بنفس المسمى فى الهند وباكستان. وفى نفس العام انضم إليها الرعيل الأول من قادة الجماعة الذين لم يكونوا سوى طلاب بالجامعة مثل (كرم زهدى- حمدى عبدالرحمن- أسامة حافظ- أحمد عبده سليم- محمد شوقى الإسلامبولى)
بحلول عام 1977م سيطرت الجماعة على جامعة أسيوط. ثم كان عام 1978م الذى انضم فيه للجماعة ناجح إبراهيم وتولى قيادتها بجوار كرم زهدى. وفى هذا العام بدأ نفوذ الجماعة فى التمدد خارج الجامعة بالسيطرة على مساجد المنيا وأسيوط وفرض نفوذها على المجتمع.
ثم كان اللقاء بين كرم زهدى ومحمد عبد السلام فرج فى القاهرة بداية مرحلة جديدة اعتنقت خلالها الجماعة فكرا تكفيريا صريحا وتوسعت ماليا بإقامة أسواق لبيع الملابس والكتب الدينية (ملاحظة:- حتى عام 1994م عام تخرجى من جامعة المنيا، كان معظم محلات الملابس حول مسجدهم بشارع الحسينى بين أيدى طلاب الجماعة).
حين لم تفِ تلك التجارة بما كانوا يتوقعونه، قرروا استباحة أموال المسيحيين المصريين، حيث شهد عام 1980م ارتكاب الجماعة لأول جريمة هجوم مسلح على محل مجوهرات يمتلكه مصرى مسيحى فى نجع حمادى. وقتل فى الهجوم بعض المتواجدين وحصل المجرمون على أربعة آلاف جنيه مصرى وخمسة ونصف كيلو ذهب.
ومنذ ذلك التاريخ فقد اقترفت الجماعة عشرات الجرائم التى تباينت بين قتل وسرقة وسطو مسلح، وكانت أكبر جرائمها حتى عام 1981م اغتيال السادات وما تبعها من جرائم أسيوط 8 أكتوبر 1981م التى خلفت عشرات الشهداء من رجال الأمن والمواطنين. ولم يكتف المجرمون هذه المرة بالقتل، بل قاموا بالتمثيل بجثث بعض الضحايا.
حتى دخول أعضاء الجماعة السجن عقب تلك الجرائم، لم يكن للجماعة أى كتب أو وثيقة فكرية خاصة بها. وفى السجن كتب أعضاؤها وثائقها العقائدية فى شكل كتيبات وأوراق مثل (الميثاق) الذى يحدد عقائدها وأفكارها وغاياتها. ولقد شاهدتُ بنفسى فى تسعينيات القرن الماضى كيف كان أعضاء الجماعة أو المؤيديون لأفكارها من طلاب جامعة المنيا يجلون هذا (الميثاق) ويتحدثون عنه بإجلال وكأنه صحيح الإسلام! ومثل كتيب (الفريضة الغائبة) وكتيب (حكم قتال الفئة الممتنعة عن شرائع الإسلام)..
تلخصت عقائد الجماعة فى تكفير الحاكم المبدل لشرع الله حسب وجهة نظرهم، وقتال الفئة الممتنعة عن الشريعة حسب معتقدهم، وجواز تغيير المنكر باليد لآحاد الناس، وتحريم دخول البرلمان أو إنشاء أو الانتماء للأحزاب السياسية، ووجوب طاعة أمير الجماعة، وإباحة قتل الجنود ولو كان هؤلاء الجنود مكرهين، وإباحة قتل من يتواجد فى نطاق العمليات أو الجرائم التى يقترفونها حتى لو كان هؤلاء المتواجدون مدنيين..
يضج سجل الجماعة الدموى بعشرات الجرائم التى لا يتسع المقال هنا لحصرها، لكن على سبيل المثال (17نوفمبر 1997م مذبحة معبد حتشبسوت وقتل 62 سائحا- 8 أبريل 1996م الهجوم على فندق أوروبا ومقتل 18 سائح- اغتيال ضباط شرطة فى عقدى الثمانينات والتسعينات- حرق عدد من المكتبات والصيدليات والمحلات التجارية المملوكة لمواطنين مصريين مسيحيين..).
(3)
فى عام 1997م كتب بعض قادة الجماعة داخل السجن بعض الوثائق والكتيبات التى عُرفت فيما بعد باسم (المراجعات) الفكرية وصلت إلى 13 وثيقة وكتاب، وتم إعلانها رسميا عام 1998م وقادها ناجح إبراهيم وكرم زهدى منها على سبيل المثال (قتل السادات كان حراما شرعيا- الحرب والجزية والحدود من اختصاص الحاكم – الأنظمة ومؤسسات الحكم أشخاص اعتبارية لا يحق معها كفرٌ ولا إيمان)
لم يكن القادة على رأى موحد من تلك المراجعات التى كُتبت فى السجن والتى أدت إلى الإفراج عن بعض قادة وأعضاء الجماعة. بعد تلك المراجعات وحتى عام 2006م هدأت حدة جرائم الجماعة، حتى انضم عدد من أعضائها إلى (القاعدة) ثم استأنف تحالفهم الجديد جرائمهم على أرض مصر باستهداف منتجعات البحر الأحمر! وثبت أن (المراجعات) لم تكن إلا وسيلة لجأت إليها الجماعة من باب المراوغة حين وجد القادة أنفسهم فى السجن عقب ارتكاب جرائمهم!
لأن سير الأحداث بعد 2011م وحتى ثورة يونيو ثم فض اعتصامى رابعة والنهضة (مثل تزعم بعض قادة الجماعة التاريخيين لمشهدى الاعتصام وتحريض المعتصمين) أثبت ووثق أن هناك ظلالا ضخمة حول ما يسمى بالمراجعات وأنها ربما كانت خديعة كبرى!
(4)
بعد أن استتب الأمر للدولة المصرية وبعد أن دفع المصريون ثمن الحفاظ على بلادهم دما واقتصادا، آثرت الجماعة الإسلامية أن تقدم للمصريين وجها معتدلا وقامت بالفعل بالمشاركة فى أنشطة وفعاليات مجتمعية ملحوظة مثل مشاركاتها فى محاولات الصلح بين العائلات لوقف بعض حالات الثأر وغيرها. وكانت تصدر من وقتٍ لآخر بيانا حول أى مستجدات الشأن العام وحرصت فى لغة بياناتها على عدم الاصطدام بالدولة المصرية أو الرأى العام المصرى الذى خرج لتوه من مشاهد عظمى أضفت على عقله الجمعى نضجا ورفضا لأى خطاب تعبوى دينى تصادمى مع الدولة.
وهنا أعود للسؤال موضوع المقال..هل بالفعل تراجعت الجماعة الإسلامية عن معتقداتها التى كانت سببا مباشرا لاقتراف أعضائها جميع الجرائم عبر العقود الماضية؟ هل تبرأت الجماعة من جرائمها وأبدأت أسفا أو ندما أو قدمت اعتذارا للمصريين؟ بل هل تعترف الجماعة الإسلامية اليوم أو تتفق على وصف ما اقترفته سابقا بالجرائم؟! ماذا عن اعتناقها مبدأ وجوب الإيمان بعودة الخلافة كركيزة أساسية من فكر الجماعة؟
ماذا ستفعل الجماعة بعد عشر أو عشرين سنة فى مصر؟ بعد أن تستعيد بعضا من قوتها وينسى بعض المصريين ما كان من تاريخها ويعود بعض قادتها الدمويون الذين لا تزال تحتفى بهم وتقدمهم على موقعها بلقب (الشيخ) وتفرد له المساحة ليتحدث باسمها؟
حين يطالع المواطن المصرى اليوم موقع الجماعة الرسمى، وهو يعرف تاريخها القريب والبعيد، يجد كومة من الأسئلة تصدمه وتقفز أمام عينيه من بين العبارات والمقالات التى وضعتها الجماعة بشكل رسمى على موقعها.
وفى الواقع فأنا هنا لا أفتش فى الضمائر أو أحاول محاكمة ما وقر فى الصدور..إنما أحاول إماطة اللثام عن جماعة مصرية تتواجد مجتمعيا ورسميا ويدى أعضائها ملطخة بالدماء، فلا أقل من أن نجد إجابات حقيقية عما يعتقده زعماء تلك الجماعة اليوم وأرى أن هذا حقٌ أصيل لكل مواطن مصرى.
(5)
لن يحار المرأ كثيرا فى العثور على إجابات صادمة لم تحاول حتى التخفى أو التجمل.. فعلى موقع الجماعة وتحت عنوان (من نحن؟) هناك عدة مقالات وموضوعات تعريفية بالجماعة وتاريخها لمن لا يعرفها.
عدة موضوعات ومقالات صدرت الجماعة موقعها الرسمى بها. هذه المقالات تقدم سردا تاريخيا للجماعة ثم تشرح عقيدتها وطريقها ومنهجها. إذن فهذه هى الجماعة كما تتحدث عن نفسها الآن عام 2022م وليس كما يدعيه خصومها.
المقال الأول كتبه أحد قادتها (على الدينارى) وهو سرد لتاريخ الجماعة. ومن أول كلمة إلى آخر كلمة فى المقال تجد نفس المصطلحات عن الطاغوت (أى الحاكم) وعن (جهاد) الجماعة وصفا لجرائمها، ويصف المقال الترويع الذى مارسته الجماعة فى محافظات مصر الوسطى بأنه (اهتمام بمشاكل المجتمع اليومية) ووصف فرج فودة بالكاتب العلمانى، ويصف جرائم 8أكتوبر 1981م بأسيوط بأنه اشتباك بين أفراد الجناح العسكرى للجماعة وقوات الشرطة!
ويشيد بتاريخ الجماعة فى الجهاد فى أفغانستان وأنها قدمت العديد من الشهداء هناك مثل الشيخ على عبد الفتاح! وينهى كاتب المقال ما كتبه بملخص صادم عن أفكار الجماعة ومعتقداتها وفى أول سطر أن (الميثاق) هو دستور الجماعة! وأن غايتهم تعبيد الناس لربهم! وإقامة الخلافة وأن الفريضة الغائبة هى الجهاد بالدم وأن الطوائف المنتسبة للإسلام الممتنعة عن التزام بعض شرائعه تُقاتل وكذلك من عاونهم من رجال الشرطة حتى لو خرجوا مكرهين يقتلوا ثم يبعثوا على نيتهم! وحاول الكاتب فى النهاية وذرا للرماد فى العيون أن يوجه بعض النقد لجماعته فقال (يؤخذ على الجماعة انشغالها بقضية الخروج على الحاكم دون التفريق بين مسلمهم وكافرهم!)
المقال الثانى بعنوان (الملامح الفكرية للجماعة) وقد حدد ثمانية عشر عنصرا كملامح أساسية لفكر الجماعة وأخطرها بند التكفير بعد إعادة صياغته بما يعتقد كاتبه أن هذا اعتدالٌ يمنحه مساحة مراوغة! (لا نكفر أحد بمعصية ما لم يستحلها ولا يكون العمل كفريا ما لم يرد دليل قطعى ....إلى آخره) ..تخلص تلك البنود إلى حقيقة أنها إعادة تدوير لأفكار الجماعة السلفية المتشددة ببعض العبارات المطاطة مع الإبقاء على فكرة التكفير والتغيير باليد عند المقدرة ..
(6)
أما أخطر هذه المقالات التعريفية فهو ما ورد بعنوان (قراءة خاصة فى فكر الجماعة الإسلامية، قراءة فى بند طريقنا). يعرض هذا المقال لما ورد فى كتاب الميثاق تحت عنوان طريقنا. يرسم كاتب المقال طريق الجماعة الآن، فيقول أن الغاية هى إقامة الدين عن طريق عدد من الواجبات الشرعية منها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والذى يتحول إلى فرض عين إذا لم يوجد من يقوم به من وجهة نظرهم. ويتحدث كثيرا عن الجهاد بصورته التقليدية فى أدبيات الجماعات المتطرفة السلفية.
أما فيما يخص جرائم الجماعة المجتمعية فيقول كاتب المقال متباهيا بتلك الجرائم أن الجماعة نشرت فقه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وكان لقيامها بهذا الدور ثمرة عظيمة فى منع التراخيص لمحلات الخمور فى مصر، والفصل بين الطلبة والطالبات فى مدرجات الجامعة ومنع الكوارث الأخلاقية التى كانت تحدث فى الجامعة تحت ستار الرحلات الترفيهية والحفلات الفنية ...!
وعن جرائمها الدموية تقول الجماعة عن نفسها، أنها ربت أبناءها على الاستعداد للجهاد فى سبيل الله وجاهدت الحاكم المستبدل بشرع الله شرعا آخر..وأقامت معسكرات الجهاد خارج مصر فى أفغانستان وألبانيا والبوسنة..وتتهم الدولة المصرية فى محاربتها لجرائم الجماعة بأن النظام المصرى عرض الجماعة لمحاولات شرسة لاستئصالها وتصفية قياداتها مما اضطر الجماعة إلى رفع السلاح فى وجه النظام!
وفى موضع آخر يبوح كاتب المقال بالسر خلف وضع الجماعة الآن..فيقول إن الجهاد –حسب وجهة نظرهم – لا يكون واجبا إلا بعد توافر الشروط مثل القدرة على الجهاد!
وقد تتوافر القدرة ولكن هناك موانع تمنع القيام به فلذلك لا يجب الجهاد إلا بعد زوال الموانع وحتى يتم قياس المصالح والمفاسد فترجح مصالحه على مفاسده! وأن الرسول (ص) لم يلزم نفسه بخيار واحد فى طريقه لإقامة الدين فهناك خيارات أخرى مثل الصبر وتحمل الأذى وعدم الرد! ومثل الهجرة والمعاهدة والتعايش والصلح والمهادنة والموادعة!
(7)
هكذا يبدو الأمر فى غاية الوضوح. لم تتراجع الجماعة عن معتقداتها المسطورة فى ميثاقها. وألزمت نفسها بالدخول فى مرحلة المهادنة والموادعة إلى حين. لم ترد فى أى من تلك الوثائق أى كلمة اعتذار عن سفك الدماء أو تبرؤ من جرائمها، بل على العكس فموقف الجماعة الرسمى الآن يحتفى ويجل من اقترفوا تلك الجرائم. ولا تعترف الجماعة بوصف جرائم وإنما هو جهادٌ تصفه بكل صفات الشجاعة والجرأة الصدح بالحق!
وحينما رفعت الولايات المتحدة اسم الجماعة من قوائم الإرهاب فاشتم بعض المصريين رائحة غير طيبة أثبتتها تجارب العقود السابقة من استخدام كثير من تلك الجماعات ضد أوطانهم، حين حدث هذا لم تجد الجماعة أفضل من الإرهابى عاصم عبد الماجد ليكتب على موقعها ردا على تلك الشكوك! الجماعة تحتفى بالقتلة وعلى رأسهم هذا العاصم الذى ساهم علانية فى سفك الدماء من على منصة رابعة!
هذه جماعة إرهابية لم تتخل عن معتقداتها وعلى المصريين أن يستوعبوا الدرس جيدا ولا يلدغوا من الجحر عشر مرات!