سلام لروح زكريا الحجاوى
على عكس أغلبية الناس فى بلادى.. أنا أوجه الشكر والتحية لـ«أبوحفيظة» لأنه دون أن يقصد وهو يتجرأ على تراث زكريا الحجاوى وينسبه لنفسه ملحنًا لأحدث أعمال محمد منير- أشار إلى أن هناك شعبًا وفنون شعب لا يعرفها الجيل الجديد.. شكرًا له ولمن هم مثله أن أجبروا البعض لأن يعرف أن التراث الشعبى شىء.. والمهرجانات وأغانى البيئة شىء آخر تمامًا.
أسبوع كامل من الشد والجذب حول سرقة لحن أو كلمات أغنية الكينج الجديدة.. وانبرى المهاجمون ومعهم المدافعون جميعًا إلى سكة «الترند» الذى انتهى تقريبًا بعد قرار «اليوتيوب» بحذف الأغنية من منصاته، فيما بقيت فى قنوات وصفحات «المنايرة» احترامًا من الشاكين لتاريخ منير واسمه، ولمحبتهم الشديدة له ولاقتناعهم أيضًا بأنه تورط فى الأمر على غير علم.
وسط ذلك الضجيج حول فعل السرقة من عدمه.. سمع الناس وبعضهم يسمع لأول مرة عن أسماء مثل بنات مازن وفن الواو والمربعات.. والجنوب.. والتراث الشعبى واستلهام التراث وغيرها من المفردات التى لم تكن تمر على أسماعهم إلا سراعًا وفى برامج القناة الثقافية وقطعًا لم يكن أحدهم يتوقف عندها.
أهل الجنوب.. فرحوا بالأمر فها هم يجدون أنفسهم فى مقدمة المشهد.. وهناك من يسأل عن فنونهم من أهل العاصمة.. وها هو من أتى من أعلى سلم النجومية ليغرف من كنوزهم.. عدد كبير من هؤلاء لا يعرف حدود التعامل مع ما نسميه الفلكلور.. ولا يعرف أنه لدينا معاهد وكليات لدراسته وتدريسه.. وأن مئات الباحثين أوقفوا حياتهم من أجله.. أما جمهور الساحل وأغنيات جاد شويرى وأصحاب شعار- يلا بينا نرقص.. يلا بينا نهجص فلم يفهموا شيئًا من الخناقة سوى أن أغنية محمد منير التى سرق بها الترند من تامر حسنى وعمرو دياب وروبى «أغنية مسروقة».
شكرًا لـ«أبوحفيظة».. أن فتح لنا بابًا جديدًا للحوار حول وجود ما يسمى بالورشة فى فعل إبداعى هو فردى بالأساس ولم نسمع من قبل عن جواز المشاركة فيه فضلًا عن فكرة استثماره فى إبداع الآخرين ونسبه لنفسه.. فمنذ متى ونحن نتشارك فى كتابة الشعر.. أظن أن روح فؤاد حداد وجاهين وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل والأبنودى وحجاب ونجم غاضبة فى هذه الساعة.. لكنهم قطعًا سعداء بكل هذه الحركة التى تدافع عن حق الشعب فى أغنياته.
المسألة فى ظنى أكبر من مسألة حقوق الملكية وحسنًا صنعت الأزمة بأن فهم البعض أن المسألة ليست «سداح مداح».. وأن لدينا قانونًا.. اسمه الملكية الفكرية.. فالبعض لا يعرف عنه سوى أنه حق بعض مؤلفى الملازم لطلبة الثانوية العامة.. الذى لا يجوز لمدرس آخر طبعها وتوزيعها دون الرجوع إليهم.. حسنًا فها نحن نقرأ لمن يطالب بحماية «الملكية الفكرية» لتراثنا من القراصنة فى «تل أبيب»، ومن يطالب بإعادة النظر فى قيمة وأهمية هذا التراث- حتى وإن كان وراء الأمر مجرد نظرة مادية مع أن الفلكلور قيمته أكبر من تلك الأموال بكثير.
على كل حال.. ستنتهى الزوبعة سريعًا مع ترند جديد ويظل أهل الجنوب من الموهوبين فى انتظار حدث جديد حتى يتذكرهم أحد من صناع «الثقافة» بمعناها الواسع فيذهب إلى هناك.. وهنا يأتى دور «حياة كريمة» التى يعمل رجالها بدأب وصبر لتأسيس مرحلة جديدة فى التعامل مع المبدعين الشباب منهم بالتحديد فى كل شبر فى مصر.
أغنية الحجاوى التى أعاد اكتشافها محمد منير بعد تقديمها عشر مرات من قبل عبر أصوات لا حصر لها، أشهر من قدمها صفية الحجاوى مثل بنات مازن، وخضرة محمد خضر ومتقال القناوى- أعادت الضوء مجددًا على سيرة صعلوك مصرى رائد ورائع لم يكن مجرد جامع للحكايات ولا مجرد مؤسس لفرقة رقص شعبى كما يحلو للبعض اختصار دوره، ولا هو مجرد رجل أوقعته الصدف فى طريق الرئيس الراحل أنور السادات وكان سببًا فى كتابته سيرته «البحث عن الذات».
الحجاوى أحد أولياء الفن المصرى الكبار- ويا ليتهم فى مكتبة الأسرة بصفتها الجديدة يتولون طباعة كتاب الراحل يوسف الشريف عنه- استعانت به حكومة ثورة يوليو عام ١٩٥٩ ليجوب قرى مصر ونجوعها ليبحث عن المواهب فى الفن الشعبى ويجمع «المادة» التى يقدم من خلالها روح مصر.
تقول الحكاية.. إن ضباط يوليو.. عندما قرروا فتح علاقات مباشرة مع دولة الصين قام الصينيون بتقديم عرض لفرقتهم القومية للفن الشعبى.. ولأن الجانب الصينى طلب تبادل الثقافات معنا.. اكتشفنا أنه ليس لدينا ما يمكن تسميته الفرقة القومية للتراث الشعبى.. فكان تكليف يحيى حقى والحكومة للحجاوى بمهمته التى امتدت لمدة عام.. وكانت البذرة لإطلاق ما عرف بعدها بمسرح السامر.. وفرقة الفلاحين التى قدمت أبودراع ومحمد طه وفاطمة سرحان وخضرة نجاتى التى أصبح اسمها خضرة محمد خضر بعد زواجها من الحجاوى.
الحجاوى انطلق بعدها ليجمع كل ما يسمع.. ويقوم بتصنيفه وإعادة إنتاجه فى أعمال ومسلسلات للإذاعة وأوبريتات للمسرح قبل أن يتم تكوين فرقة رضا وقد كان على إسماعيل واحدًا من أبناء الحجاوى أيضًا.
فكرة الكشاف التى قام بها الحجاوى لم تكن محاولة وحيدة فهناك رحلة المستشرق ماسبيرو.. ورحلات أخرى ظلت قائمة حتى وقت قريب وآخرها ما عرف بأطلس الفلكلور، وقد بذل فيه الشاعر مسعود شومان جهدًا كبيرًا.
حركة الفن الشعبى لم تتوقف أبدًا.. وإن خفت حس نجومه.. حتى تلاشى لغياب السياق الذى تسير فيه عملية البحث.. وحتى نعود لذات السياق أو نؤسس لسياق جديد على المجلس الأعلى للثقافة أن يغير من طريقته فى العمل.. وعلى القائمين على الأمر تفكيك تلك اللجان المتلتلة الموجودة فى أماكن عدة ولا تنجز أى شىء.. أى شىء على الإطلاق.. لدينا كنز عظيم اسمه التراث الشعبى.. وبفضل جهود إيناس عبدالدايم وجمعية المأثورات الشعبية ود. نبيل بهجت تم إدراج السيرة الهلالية والأراجوز ولعبة التحطيب فى «اليونسكو»، ولدينا تلال هائلة مما يصلح للتسجيل أيضًا.. رحلة استعادة هذا التراث شاقة ومكلفة، لكنها تحتاج قبل القرار الحكومى والأموال إلى من هم مثل زكريا الحجاوى.
وبالمناسبة كنت قد تحدثت مع معالى وزيرة الثقافة منذ فترة طويلة فى أمر أن يكون لدينا مهرجان دولى لفنون الفلكلور.. وكنت أسعى أن ينطلق من أبيدوس.. أو الأقصر وربما يحدث ذلك قريبًا.. لكن ما أكتب بصدده الآن أكبر من فكرة إنشاء مهرجان للتراث الشعبى.. الأمر يحتاج إلى مشروع جامع لدراسة تصنيف وتسجيل ورقمنة ذلك التراث فى مدة زمنية محددة وغير مفتوحة وبشكل عاجل قبل أن نجد هذا التراث على أرصفة برلين وباريس وتل أبيب.