القارة العجوز بين شقي الرحى.. موسكو وواشنطن
ضربة مباغتة تعرض لها ميناء أوديسا الأوكراني على البحر الأسود، عشية توقيع اتفاق تصدير الحبوب الأوكرانية، بين موسكو وكييف، بإشراف الأمم المتحدة، ووساطة تركيا.. تحمل العديد من علامات الاستفهام، عمن قام بتلك الضربة للميناء المزمع تصدير الحبوب من خلاله، خصوصاً وأن روسيا أكدت لتركيا أنها لم تكن وراء ما حدث.. فمن ذا الذي يؤجج الحرب، ويحاول تأليب الرأي العام الدولي على موسكو، من خلال محاولة حرمان العديد من الدول من تلك الحبوب، في ظل أزمة غذاء عالمي، تضرب الدول بأطنابها؟.
عند محاولة تفسير التحسينات الأخيرة في عمليات الجيش الروسي في أوكرانيا، أخذ بعض المسئولين الأوكرانيين يقولون: (كل الروس الأغبياء قد ماتوا).. مما يعني أن الروس اكتشفوا أخيراً طريقة أكثر فعالية لخوض هذه الحرب، منذ أدائهم المبكر غير الكفء، الذي أدى إلى مقتل الآلاف منهم.. ولأن الحرب الأوكرانية، يبدو أنها استقرت في حرب استنزاف طاحنة، مع وقوف روسيا إلى الوراء، إلى حد كبير، وقصفها الشرق الأوكراني بالصواريخ، وتحويلها المدن إلى أنقاض، ثم التقدم نحوها.. قد تعتقد أن أسوأ ما في هذا الصراع قد انتهى.
على العكس.. الحرب الأوكرانية على وشك الدخول في مرحلة جديدة، استناداً إلى حقيقة، أنه صحيح، قد يكون العديد من الجنود والجنرالات الروس قد لقوا حتفهم، لكن حلفاء أوكرانيا الثابتين في حلف الناتو متعبون.. لقد ساهمت هذه الحرب في ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي والبنزين والمواد الغذائية في أوروبا.. وإذا استمرت إلى فصل الشتاء، فقد تضطر العديد من العائلات، في الاتحاد الأوروبي، إلى الاختيار بين التدفئة والطعام.. ونتيجة لذلك، أعتقد أن المرحلة الجديدة من الحرب، هي ما نسميه (استراتيجية الشتاء) التي يتبناها فلاديمير بوتن، مقابل (الاستراتيجية الصيفية) لحلف الناتو.
ومن الواضح أن بوتن مستعد لمواصلة الحرث إلى الأمام في أوكرانيا، على أمل أن يؤدي التضخم المرتفع في أسعار الطاقة والمواد الغذائية في أوروبا، في نهاية المطاف، إلى تفتيت حلف الناتو.. ويبدو أن رهانه هو: إذا كان متوسط درجات الحرارة في أوروبا أكثر برودة من المعتاد، وإذا كان متوسط إمدادات النفط والغاز العالمية أكثر إحكاماً من المعتاد، وإذا كان متوسط الأسعار أعلى من المعتاد، وإذا أصبح انقطاع التيار الكهربائي الناجم عن نقص الطاقة واسع الانتشار، فهناك فرصة جيدة لأن يبدأ أعضاء الناتو الأوروبيون في الضغط على الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، لإبرام صفقة مع روسيا ـ أي صفقة ـ لوقف القتال.. لذا يجب على بوتين أن يقول لقواته وجنرالاته المنهكين: (فقط أحضروني إلى عيد الميلاد.. الشتاء صديقنا).
إنها ليست استراتيجية مجنونة.. وكما ذكر جيم تانكرسلي، من صحيفة التايمز، (يخشى مسئولو البيت الأبيض، من أن جولة جديدة من العقوبات الأوروبية التي تهدف إلى الحد من تدفق النفط الروسي بحلول نهاية العام، يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة من جديد، مما يستفز المستهلكين المحاصرين بالفعل في أوروبا، ويغرق الولايات المتحدة والاقتصادات الأخرى في انكماش حاد.. ويمكن لهذه السلسلة من الأحداث أن تؤدي إلى تفاقم ما هو بالفعل، أزمة غذائية حادة تعاني منها البلدان في جميع أنحاء العالم).
إن جهود حلف الناتو والاتحاد الأوروبي للحد من صادرات النفط الروسية إلى أوروبا (يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط إلى مائتي دولار للبرميل أو أكثر، مما يُترجم إلى دفع الأمريكيين سبعة دولارات لجالون البنزين).. ناهيك عن أن ما بين تسعة وعشرة دولارات للجالون، أمراً ليس مألوفاً بالفعل في أوروبا، حيث ارتفعت أسعار الغاز الطبيعي حوالي 700%، حسبما ذكرت وكالة بلومبرج، منذ بداية العام الماضي، مما دفع القارة إلى حافة الركود.. وفي الوقت نفسه، من المؤكد أن مسئولي حلف الناتو والولايات المتحدة وأوكرانيا يقولون لأنفسهم: (نعم، الشتاء هو عدونا.. لكن الصيف والخريف يمكن أن يكونا صديقنا، إذا استطعنا إلحاق بعض الأذى الحقيقي بجيش بوتين المتعب الآن.. لذلك، سيقبل ـ على الأقل ـ بوقف إطلاق النار).. هذه ليست استراتيجية مجنونة.. ربما يحقق بوتين بعض المكاسب في شرق أوكرانيا، ولكن بثمن باهظ للغاية.. وتشير العديد من التحليلات العسكرية إلى أن روسيا عانت، على الأقل، من مقتل خمسة عشر ألف جندي في أقل من خمسة أشهر ـ وهو رقم مذهل ـ وربما ضعف هذا العدد من الجرحى.. وتم تحويل أكثر من ألف دبابة ومدفعية روسية إلى خردة.
يقول توماس فريدمان (أخبرني المسئولون الأمريكيون أن بوتين ليس لديه ما يكفي من القوات في الوقت الحالي، لمحاولة الخروج من شرق أوكرانيا والاستيلاء على ميناء أوديسا، من أجل ترك أوكرانيا غير ساحلية وخنق اقتصادها).. وكما ذكر نيل ماكفاركوهار، من صحيفة التايمز، فإن بوتين بحاجة ماسة إلى المزيد من القوات، للحفاظ على الزخم الأخير في الشرق، ويقوم بالفعل (بتعبئة خفية) لجلب المزيد من الرجال إلى الجبهة (دون اللجوء إلى مشروع وطني محفوف بالمخاطر السياسية.. ولتعويض النقص في القوى العاملة، يعتمد الكرملين على مزيج من الأقليات العرقية الفقيرة والأوكرانيين من الأراضي الانفصالية والمرتزقة، ووحدات الحرس الوطني العسكرية)، ووعد بحوافز كبيرة للمتطوعين.
ومن الواضح أن حلف الناتو يأمل أن يتمكن الجيش الأوكراني من استخدام أنظمة صواريخ المدفعية عالية الحركة M142 الجديدة، أو HIMARS، التي نقلتها الولايات المتحدة إلى كييف، لمحاولة إلحاق المزيد من الدمار بالقوات الروسية في أوكرانيا، في الصيف والخريف.. ولكن، ليس هناك ما يشير إلى أن بوتين مستعد للتوصل إلى اتفاق سلام نهائي، ولكن قد يكون من الممكن دفعه نوع من وقف إطلاق النار، يمكن أن يوفر الإغاثة لأسواق الطاقة والغذاء.
لكل هذه الأسباب، أود أن أزعم ـ يقول توماس فريدمان ـ أن الحرب في أوكرانيا على وشك الدخول في أخطر مراحلها منذ غزو الروس في فبراير الماضي: استراتيجية بوتين الشتوية تلتقي باستراتيجية الناتو الصيفية.. ومن المؤسف أنه لا يوجد ما يمكن أن يفعله بوتين، إذا توقفت قواته مرة أخرى أو فقدت الأرض.. وقد يجعله ذلك أكثر استعداداً لوقف إطلاق النار.. وقد يجبره ذلك أيضاً على التعبئة الوطنية لجلب المزيد من القوات إلى القتال.
هناك شيء واحد فقط أنا متأكد منه: هذه الحرب في أوكرانيا لن تنتهي ـ تنتهي حقاً ـ طالما أن بوتين في السلطة في موسكو.. إنها ببساطة ملاحظة، بأن هذه كانت دائماً حرب بوتين.. لقد تصورها شخصياً وخطط لها ووجهها وبررها.. ومن المستحيل، بالنسبة له، أن يتخيل روسيا، كقوة عظمى، بدون أوكرانيا.. لذا، في حين قد يكون من الممكن إجبار بوتين على وقف إطلاق النار، فإنني أشك في أنه سيكون أكثر من مؤقت.. باختصار: هذه الحرب الأوكرانية لم تنته بعد، لدرجة أن أحداً لا يستطيع حتى رؤيتها.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. الللهم آمين.