70 عامًا على ثورة 23 يوليو
تحتفل مصر، ولا أُبالغ إذا قلت ويحتفل العالم العربي أيضًا، بمرور سبعين عامًا على ثورة يوليو. وتعتبر ثورة يوليو- سواء اتفقنا أو اختلفنا معها- من أهم الأحداث في تاريخ المنطقة في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولفت نظري بشدة- كمؤرخ- حالة الجدل المستعر على صفحات التواصل الاجتماعي حول ثورة يوليو، هذا الجدل الذي يشتعل في مناسباتٍ معينة مثل: 23 يوليو، 5 يونيو، 28 سبتمبر. وحالة الجدل بشكل عام من المفترض أن تكون "صحية" في المجتمعات المتقدمة. ولكني ألاحظ أن حالة الجدل بالنسبة لثورة يوليو هي حالة حدية، ليست حتى بين مؤيد ومعارض، بل بين "مُقَدِس" للثورة، و"ناقم" أو "مستهجن" لها. وعلى ذلك يسود إما اللون الأبيض أو اللون الأسود، مع أن البقعة السائدة في التاريخ هي المناطق الرمادية.
ومن أمثلة هذا الجدل العقيم، طرح التساؤل حول ماهية وطبيعة ما حدث في 23 يوليو، هل هو "ثورة" أم "انقلاب"؟! والحق أن هذا الطرح ربما كان جائزًا في السنوات الأولى ليوليو، ولكن إعادة طرحه الآن هو نوع من الجدل العقيم، ونوع من سلفية التاريخ. لقد أصبحت يوليو حقيقة واقعية في تاريخنا، وينسى البعض أو يتناسى أن 23 يوليو هو اليوم الوطني لجمهورية مصر العربية، لذلك يجب علينا احترام الحدث لأنه العيد الوطني للبلاد. الأمر الأخر هو أننا سواء في مصر أو العالم العربي، لدينا مشكلة في التعامل مع مصطلح "ثورة"؛ إذ نطلق "ثورة" على أي حدث في تاريخنا، بل ونسرف أحيانًا في استخدام وتوظيف المصطلح، فنتحدث عن الثورة الإدارية، الثورة الخضراء وغيرها.
الأمر الآخر بالنسبة لحالة الجدل العقيم في شأن ثورة يوليو، هو تصور البعض أن تاريخ مصر المعاصر يبدأ مع 23 يوليو، وأن ما قبل يوليو هو "العهد البائد". وعلى الطرف الآخر هناك من ينظر إلى يوليو على أنها انقلاب على مصر الليبرالية، وقطيعة مع "الزمن الجميل"، القاهرة الأوربية، والإسكندرية الكوزمبوليتانية عروس البحر المتوسط. وكلا الطرفين من أنصار الأبيض والأسود في التاريخ. ولم ينظر أحد إلى الأمر من خلال منظور الاستمرارية في حركة التاريخ. فلم تأتِّ ثورة يوليو من فراغ، ولم تهبط على مصر من السماء، وكما يقول علماء الاجتماع فإن الجديد يولد من رحم القديم، وبعد ذلك ينفصل عنه، لكنه يستمر في حمل كثير من صفات القديم.
من هنا نستطيع نفي فكرة "العهد البائد" وحتى فكرة "الزمن الجميل"، فالكثير من قرارات يوليو لم تهبط من السماء، وإنما هي وليدة أفكار المرحلة السابقة، مثل فكرة تأميم قناة السويس التي كانت حلم الحركة الوطنية المصرية منذ مطلع القرن العشرين، وكذلك فكرة إنشاء السد العالي التي هي وليدة مدرسة الريّ المصري، وحتى فكرة الإصلاح الزراعي؛ إذ طُرِحَت بشدة في أروقة السياسة والمجتمع في مصر بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن يُحسَب لثورة يوليو أنها أخذت على عاتقها تحقيق أحلام الشعب المصري، والانتقال بها من مرحلة الأحلام إلى مرحلة القرارات الوطنية.
أتمنى أن نترك ثورة يوليو للتاريخ، وننشغل أكثر بالقضايا المصيرية المُلِحة، حتى لا توصمنا الأجيال القادمة بأننا كنا "سلفيّ التاريخ".