ماذا قالت الصحف فى أول شهر بعد ثورة يوليو؟
«روزاليوسف» أيدت و«الأخبار» تجاهلت الثورة لمدة شهرين ونصف!
محمد نجيب لـ«آخر ساعة»: وضعت أخى فى السجن وأعتقد أنه برىء
إحسان عبدالقدوس فى «روزاليوسف»: الثورة لم تكن مفاجأة لأحد
سيد قطب طالب الجيش بعدم العودة للثكنات والاستمرار فى حكم مصر!
لطفى الخولى فى روزاليوسف: نريد الأمن للشعب وبهاء الدين يطالب بالدستور
تعد ثورة يوليو الحدث الأهم فى القرن العشرين، ليس فقط على مستوى مصر، ولكن على المستوى العربى والشرق الأوسط، وكثيرًا ما تحدث الجميع فى كل مناسبة عن إنجازات وإخفاقات الثورة، لكننا سنعود إلى عام ١٩٥٢، وتحديدًا فى الفترة من ٢٣ يوليو وحتى ٢٣ أغسطس، لنقرأ ونعرف كيف تعاملت الصحافة مع هذا الحدث المؤثر وقتها؟ وهل كانت التوقعات تشير إلى أن الحدث سيبقى مؤثرًا فى التاريخ المصرى حتى الآن؟ وكيف كان وضع الشارع؟ والكُتاب والمسئولون عن صاحبة الجلالة «الصحافة»؟
فى يوم ٢٤ يوليو ١٩٥٢، تصدر الصفحة الأولى لجريدة الأخبار «مانشيت» بعنوان «اللواء محمد نجيب يقوم بحركة تطهير».
وداخل الجريدة يقول محمد نجيب فى مؤتمر صحفى: «لن أرحم أحدًا إذا حاول تشويه حركتنا. ووضعت أخى فى السجن ولا أظنه متهمًا».
وفى عدد يوم ٢٩ يوليو ١٩٥٢ من مجلة «روزاليوسف» كتب إحسان عبدالقدوس مقالًا بعنوان «النصر للرجال».. يقول فيه إحسان إن الثورة لم تكن أبدًا مفاجأة، بل كانت متوقعة، نتيجة لصراع القوى السياسية والأحزاب وتبدل الحكومات.
ورأى عبدالقدوس أن الثورة استطاعت أن تثبت أن الشعب قادر على أن يتحرك، وأنه كان ينتظر تلك الثورة منذ عام ١٩٤٩. وأن الملك كان يتوقع أنه سيتنازل عن العرش فى يوم ما، ويكمل: «كانت تصرفات الملك السابق، العامة والخاصة، تجزم بأنه رجل غير طبيعى، لا أريد أن أستعمل لفظ مريض، رغم أنه قيل عقب الحادث الذى وقع له فى القصاصين، إن أحد الأطباء الذين تولوا علاجه كتب تقريرًا أكد فيه أن الملك أصيب بمرض عقلى أو عصبى». وفى نفس العدد يكتب اللواء محمد نجيب، قائد الثورة، مقالًا يقول فيه إن كل الأحداث التى أدت إلى وقوع الثورة تعود إلى هزيمة حرب فلسطين «تلك الأيام التى كان ضباطنا فيها يتقدمون صفوف الجنود تحت وابل من نيران العدو إلى أن تتلاشى أرواحهم الزكية، فتسقط أجسامهم الطاهرة هامدة على الأسلاك الشائكة».
فى عدد ٤ أغسطس، تصدر مجلة «روزاليوسف» «مانشيت» «فاروق الذى ورث عن والده ١٥ ألف فدان وخرج من مصر وهو يملك ٩٣ ألف فدان».
فى عدد ٦ أغسطس، تصدر مجلة «آخر ساعة» بمانشيت «مصر تكتسح الصفحات الأولى فى صحف العالم.. فاروق مادة ضحك شديد فى مجلس العموم»، يتبع ذلك حديث عن الانفجار الذى حدث فى صحف العالم عقب الحركة التى قام بها الجيش، حيث «كانت طلقة المدفع الأولى التى ارتجت لها صحف العالم هى البيان المقتضب الذى أذاعه راديو القاهرة فى صباح الحركة العسكرية».
فى نفس العدد يتحدث بعض الصحف العالمية عن أن الموقف فى الشرق الأوسط قد يتعرض لكثير من الاضطراب، فكان عنوان صحيفة «ديلى إكسبريس»: «الجيش يستولى على السلطة فى القاهرة»، وصحيفة «نيوز كرونيكل» قالت: «فاروق سجين قصره»، أما صحيفة «ديلى ووركر» فقد كان عنوانها: «الشعب المصرى يصحو فجأة».
يعتبر الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، فى مقال قصير بعنوان «ما زلت عند رأيى»، أن المذكرة التى وقعتها الأحزاب فى صيف ١٩٥٠، بمثابة بداية ممتازة حركت الماء الساكن، تلك المذكرة التى تمت كتابتها للهجوم على الملك فاروق بعد فضائحه المراهقة فى أوروبا، وينهى هيكل حديثه قائلًا: «ولكن المسألة كلها لم تزد على مجرد بداية ليس لها طريق مرسوم تسير فيه، وليس لها غاية أخيرة تنتهى إليها».
وقالت الصحفية الكبيرة إيزيس فهمى فى مقال بعنوان «يجب أن تتغير الحياة الاجتماعية فى مصر»: «هل سيستمر المجتمع فى حياته اللاهية القديمة لا يأبه لشىء إلا الملذات وإشباع الرغبات؟.. أم هل يتغير هو الآخر بالتغير الذى طرأ على الحياة فى مصر؟». وتكمل: «لا شك أن مصر لم تعد تحتمل بقاء مجتمع طفيلى، وإذا لم يتطور المجتمع مع التطور الجديد كتب بنفسه وثيقة إعدامه». وتخشى الكاتبة «ألا يتجاوب المجتمع مع هذه الحياة الجديدة».
وفى نفس العدد نرى صفحة كاملة بعنوان «قرية القائد العام تزغرد»، تشير الصفحة إلى الأفراح والزغاريد التى انطلقت من قرية النحارية التى يعد محمد نجيب، قائد الثورة آنذاك، ابنًا من أبنائها.
وفى العدد التالى من نفس المجلة بتاريخ ١٣ أغسطس، يكتب هيكل مقالًا بعنوان «تطهير الصحافة»، يطالب فيه بتطهير ومعالجة كل المشاكل التى لحقت بالصحافة فى العهود السابقة.
ويطالب هيكل بإقامة صحافة حرة قائمة على الديمقراطية قائلًا: «أنا أعتقد أن الصحافة الحرة هى المعنى الوحيد العملى للديمقراطية».
وفى عدد جريدة الأخبار ليوم ٨ أغسطس، يكتب سيد قطب مقالًا يطالب فيه الجيش بعدم العودة إلى الثكنات، وعدم ترك العمل فى السياسة، حتى لا يترك الجيش السياسة فى يد الرجال «الذين امتطى الملك الراحل ظهورهم فى أغراضه واتخذ منهم أدوات لإذلال الشعب».
ويكمل: «أيها البطل، أيها الأبطال إن الوقت لم يحن بعد كيما تعودوا إلى الثكنات».
وفى عدد يوم ٢٥ أغسطس وفى مجلة «روزاليوسف» يكتب سيد قطب مقالًا بعنوان «من مصلحة كبار الملاك أن يخضعوا للثورة»، يتحدث فيه قطب عن براعة الجيش فى حدوث ثورة دون إراقة دماء.
ويدعم قطب أن يكون الحكم فى يد الجيش، قائلًا: «وإنه لمن مصلحة الجميع أن يظل الزمام فى أيدى قوة نظامية طاهرة نظيفة، وألا يقف الحمقى فى طريقها، فهى أقوى من كل ما يظنون، إنها ستسحقهم سحقًا لأنها قوة الشعب كله».
ويدعو قطب الجميع للمساعدة والمشاركة لتحقيق أهداف الثورة.
وفى عدد يوم ٢٥ أغسطس بمجلة «روزاليوسف»، يطالب الكاتب لطفى الخولى فى مقال بعنوان «أمن الشعب» بالتخلى عن الظلام وعن الطرق الاستبدادية للبوليس السياسى المصرى فى العصور السابقة للثورة، حيث كان يمكن أن يسجن ويعتقل أى أحد ظلمًا بسبب رأى أو موقف.
وفى أعداد ٢٨ يوليو و٤ و١١ أغسطس بـ«روزاليوسف»، كتب الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين مقالات تطالب بضرورة صنع دستور جديد مناسب لتلك الإصلاحات التى تجرى والتغيرات التى تحدث، دستور يحترمه الجميع ويسيرون على ضوئه. ذلك دون أن يشير بهاء الدين أو يتطرق لأى شىء من تفاصيل الثورة.
ويجب أن نشير إلى أن أغلب أو بعض الصحف كانت تتعامل مع الأحداث وكأنها غير مصدقة لما جرى، أو لا تعطى للحدث أهميته، ربما كانت تظن أن هذا الحدث لن تمتد آثاره إلى أكثر من سبعين عامًا، فنرى رؤساء جريدة الأخبار، وطوال شهر، لا يتحدثون عن الثورة ولا يذكرون شيئًا عنها، ويأتى ذكر الثورة مقتصرًا على خبر بسيط فى الصفحة الأولى وعلى بعض الأخبار الصغيرة فى الداخل، ويمكن أن نعتبر المرة الأولى التى تحدث فيها الكاتب مصطفى أمين عن الثورة بشكل مباشر كانت المقال الذى نشره يوم ١٤ أكتوبر، والذى كان يحمل عنوان «سر الضباط التسعة»، والذى تسبب فى غضب أعضاء مجلس قيادة الثورة مما قدم كاتبه للمساءلة.
ونرى أيضًا أن جميع الصحف لم تتحدث سوى عن محمد نجيب، ولا أحاديث عن باقى رجال الثورة، بمن فيهم جمال عبدالناصر نفسه، ونرى أن صور ورسومات محمد نجيب وحده هى التى أغرقت كل الصحف، فى حين أن الجريدة الوحيدة التى فكرت فى نشر صور باقى الضباط كانت جريدة الأخبار، وذلك فى أحد أيام شهر أغسطس، أى بعد الثورة بحوالى شهر، ولم يتكرر الموقف ثانية.
وبالنسبة لآراء الكتّاب، يجب أن نتوقف أمام رأى سيد قطب طويلًا لنسأل.. كيف تحول سيد قطب؟ وهل كان سيد قطب يعلم أنه سيُعدم فى ظل حكم الثورة التى طالب بدعمها، وفى ظل حكم الجيش الذى طالبه بعدم ترك السلطة والعودة إلى الثكنات؟ إن الباحث الدكتور حلمى النمنم يفسر هذا الاضطراب الضارب فى شخصية سيد قطب، فى كتابه الهام «سيد قطب سيرة التحولات» الصادر عن دار الكرمة، لنعرف من خلال شرح النمنم ماذا حدث فى شخصية سيد قطب، وكيف تحول موقفه، وهل هو الموقف الأول الذى يتحول فيه من النقيض إلى النقيض؟! وكيف أصبح قطب رجعيًا وإرهابيًا يستحق الإعدام.
ونرى أن أغلب الصحف طوال الشهر كانت تتحدث عن بعض المواقف التى تدل على ضعف شخصية فاروق، باعتباره المراهق الذى تولى سلطة بلد بحجم مصر، ولم يستطع التخلى عن تلك المراهقة.
ومن خلال آراء بعض الكتاب الذى تم ذكرهم، سيتضح أن بعض التهم الذى يوجه اليوم إلى الثورة، بصفتها المسئولة عن المشاكل التى وصلت لنا فى حاضرنا، كانت له جذور سابقة للثورة.
إن قراءة تاريخنا بشكل مستمر شىء فى غاية الأهمية لا مفر منه، تكمن أهمية القراءة فى التاريخ فى تتبع جذور المشاكل التى لا تزال موجودة فى الحاضر.
ولكن بكل تأكيد ما قالته الصحفية إيزيس فهمى من مطالبة الجميع بالاتحاد، والنظر إلى هدف واحد هو هدف التقدم، والتخلى عن الجمود والتخلف، هو الهدف الذى يجب أن نتطلع إليه جميعًا دون أن يكون فى أنفسنا أى شعور بالفردية، بل يجب أن نفكر فقط فى وطننا وفى مستقبله الذى نريده مشرقًا.