ما اقترفته الدراما الدينية فى ثلاثة عقود ضد الهوية المصرية!
(1)
فى مشهدٍ من الفيلم الهزلى (بنك الحظ) يردد الفنان أكرم حسنى عبارة (هو احنا بقينا كدا إزاى!).. أستعير تلك العبارة لمحاولة فهم التغييرات التى طرأت على مساحة كبيرة من العقل الجمعى المصرى فيما يخص الهوية المصرية.
تحتوى إجابة هذا التساؤل على عناصر موغلة فى القدم تمتد لقرون طويلة ماضية، وعناصر حديثة ومعاصرة ربما تكون أقوى تأثيرا. وربما لم يلتفت الباحثون بعد بالقدر الكافى من الدراسة لبعض تلك العناصر رغم قوتها الطاغية ودورها الحقيقى فى صياغة هذا التغيير. ومن تلك العناصر موضوع المقال وأقصد الدراما التليفزيونية الدينية المصرية فى العقود الثلاثة بدءًا من نهاية السبعينيات.
وقبل التطرق إلى ما تفاصيل ما اقترفته تلك الدراما ضد الهوية المصرية، هناك حقيقة هامة تبين قوة تأثيرها. هذه الحقيقة هى أن مصر فى تلك العقود لم تكن قد دخلت بعد عصر السماوات المفتوحة من قنوات فضائية، كما لم تكن الشبكة العنكبويتة قد عُرفت أو توغلت فى المجتمع المصرى بعد. ولأن المصريين فى غالبيتهم معروف عنهم أن القراءة الثقافية المعلوماتية العامة ليست فى قائمة اهتماماتهم ولا تشكل لديهم مصدرا رئيسيا لصياغة الوعى، فقد شكلت القناتان التليفزيونيتان الرسميتان الأولى والثانية المصدر الرئيسى – والأوحد فى كثير من ربوع مصر- لتشكيل هذا الوعى وصياغة مواقف المصريين الجمعية من كثيرٍ من المفردات.
وتكشف تلك الحقيقة عن وجهها إن عرفنا أنه حتى سنوات قليلة ماضية كان كثيرا من المصريين فى قرى ونجوع محافظاتٍ بعينها يرفضون استقبال القنوات الفضائية ويكتفون بالتليفزيون المصرى الأرضى، وهذه المعلومة من مشاهدة شخصية لكاتب المقال. لذلك فقد كان مثلا مسلسل السابعة مساء يشاهده غالبية المصريين حتى إذا ما أقبل شهر رمضان استعد صانعو الدراما بأقوى أعمالهم الرمضانية وهى الدراما الدينية.
(2)
شيطنة الحضارة المصرية القديمة!
شيطنة الحضارة المصرية القديمة.. كانت هذه هى أول ضربة قوية وجهتها تلك الدراما للهوية المصرية. فأشهر مسلسلين (لا إله إلا الله) و(محمد رسول الله) قد قدما صناعهما منحة مجانية كبرى لكل الأقوام والهويات والأفكار التى دأبت على شيطنة الحضارة المصرية، كما ساهموا بقوة فى خلق الحاجز النفسى الأكبر بين المصريين وبين جذورهم التاريخية الحقيقية.
ففى الجزء الخاص بالنبى موسى عليه السلام، تطوعوا بتقديم شخصية فرعون موسى على أنه الملك المصرى العظيم رمسيس الثانى! وأن امرأة فرعون هى الملكة الجميلة نفرتارى، وأن هذا الملك العظيم هو من حارب دعوة التوحيد وحارب النبى وهو من عذب وظلم واقترف كل الجرائم الواردة فى الكتب المقدسة السماوية!
وبنظرة تاريخية واحدة نعرف أن ما تم تقديمه فى هذا الجزء هو بالضبط الرؤية اليهودية للحضارة المصرية! ولأن كل مسلسل كان عدة أجزاء، فى كل جزء منها يتم تقديم أحد الأنبياء فى مواجهة الكفار الذين يحاربون دعوته، فقد تم وضع المصريين القدماء فى كفة واحدة مع كل هؤلاء الكفار وصولا إلى كفار قريش فى الجزء الخاص بالنبى محمد (ص)
وفى الجزء الخاص بإخناتون، فقد تم تقديمه بصفته أول الموحدين متهمين بذلك المصريين الذين سبقوه وعلى مدى زمنى يمتد لأكثر من خمسة عشر قرنا بأنهم وثنيون وكفار! كما تم وسم الديانة المصرية المعاصرة لإخناتون بالوثنية! رغم أن دارسى التاريخ يعرفون جيدا أن المصريين القدماء، وعلى الأقل منذ فجر تاريخهم المكتوب قد عبدوا إلها واحدا، وأن صراع إخناتون مع الكهنة لم يكن إلا صراع نفوذ وسياسة ولم يكن صراعا إيمانيا ضد الوثنية!
كما تم فى نفس الجزء شيطنة الكهنة المصريين الذين كانوا أرباب العلوم والحكمة والطب والآداب، ومنذ أن عُرض المسلسل شاعت بين المصريين جميع الأفكار السوداء عن طائفة الكهنة فى مصر القديمة!
وهكذا نشأت أجيالٌ كاملة- هم الآن آباء وأمهات وأرباب أسر مصرية- تنظر للمصريين القدماء تلك النظرة حتى إن هناك عبارة ربما سمعها كل المرشدين السياحيين المرافقين لمجموعات مصرية بمجرد ذكر اسم رمسيس الثانى (مش دا فرعون موسى!)
(3)
طمس شخصية الهيرو المصرى الوطنى لصالح التدين البدوى القبلى!
هناك عشرات الأعمال الدرامية الدينية تم عرضها فى مواسم رمضان، ثم أصبح يعاد عرضها حتى الآن، وغالبيتها كانت بتمويل مصرى حكومى. وقدمت تلك الأعمال وألحت فى تقديم شخصية (الهيرو) أو البطل على أنه فارس عربى خرج من الجزيرة العربية ممتطيا جواده شاهرا سيفه لفتح البلاد والاستيلاء عليها وعلى خيراتها.
تم تقديم هذه الشخصية على أنها اليوتوبيا والمثل الأعلى وأنها المفردة الصحيحة لكلمة الجهاد! وتم تزوير التاريخ صراحة بضرب حجب وأستار على كل صفحات سفك الدماء واغتصاب الحقوق والممتلكات التى تضج بها صفحات تاريخ أمهات الكتب! كل ذلك تخديما على تلك الشخصية المثالية الملائكية التى شبت عليها تلك الأجيال التى أصبحت تحفظ عن ظهر قلب أسماء هؤلاء الأبطال مثل موسى بن نصير وعقبة بن نافع وطارق بن زياد على سبيل المثال لا الحصر!
وفى القرى والنجوع والمناطق الشعبية كان الأطفال يصنعون سيوفا خشبية ويربطون أحزمة فوق جلابيبهم لكى تماثل ملابس الأبطال الذين كانوا يشاهدونهم فى تلك المسلسلات الدينية!
وفى مقابل ذلك قلت وندرت فى نفس العقود الأعمال التاريخية التى تقدم نماذج لأبطال مصريين حقيقيين فى حرب وانتصار لما يكن مضى عليهما سوى سنوات قليلة! فهل مثلا تم إنتاج مسلسلات بعنوان إبراهيم الرفاعى فى ذلك التوقيت؟! لم يحدث ولم يعرف المصريون أسماء أبطالهم إلا مؤخرا بعد مرور عقود على النصر! وكان كل عام فى السادس من أكتوبر تتم إعادة تلك المجموعة من الأفلام على استحياء دون أن يتم مثلا الاستعداد بمجموعة من الأعمال الدرامية لهذا اليوم كما كان يستعد صناع الدراما الدينية طوال العام لموسم رمضان لغسل عقول المصريين!
(4)
وفى نفس العقود التى كانت الأعمال الدرامية المكثفة تكرس لإقناع المصريين بانتشار الفساد والرشوة فى مصر المعاصرة، كانت الدراما الدينية تقدم لهؤلاء المصريين مجموعة من الأعمال تحت مسمى (القضاء فى الإسلام) تعرض لسير بعض القضاة الشرفاء فى فترات تاريخية مرتبطة بما يسمى عصور الخلافات المتعاقبة.
ووسم العمل بمسمى الإسلام جعل أنفس المصريين تتوق لتلك العصور التى كانت فيها- حسبما يعرض على الشاشة- الحكومات وكان القضاة أمثلة للعدل المطلق! وبنظرة علمية موضوعية وطبقا لبعض الدراسات التاريخية المنشورة نكتشف الحقائق المؤلمة، حيث نعرف من إحداها للدكتور أحمد عبدالرازق أن الرشوة وبما فيها رشوة القضاة والولاة وجميع طبقات الموظفين إنما عرفت فى مصر فيما يسمى بالعصور الإسلامية حتى وصل الأمل مداه بوجود ديوان للبرطلة أى الرشوة!
(5)
أما الأعمال الدرامية الدينية التى تعاملت مع قصة الغزو العربى لمصر فقد قامت بدورٍ لا يقل شراسة عما سبق فى تزوير التاريخ بالإخفاء المتعمد لسيرة الحكام العرب فى مصر. اتخذت تلك الأعمال من مشهدٍ واحد بطله عمرو بن العاص حجة للتزييف. وهو مشهد تأمين عمرو بن العاص للبطرك القبطى بنيامين الذى كان هاربا فى الصحراء من بطش الحاكم البيزنطى.
لقد صورت تلك الأعمال بأن المصريين كانوا يتلهفون على دخول الجيش الغازى لمصر وذلك عكس حقائق التاريخ التى تؤكد عدم اكتراث غالبية المصريين بالصراع الدائر بين محتلٍ سابقٍ ومحتلٍ آتٍ، لأنهم- أى المصريين- لم يكونوا عرفوا أو خبروا بعد الحكم العربى، كما أنهم كانوا أهل كتاب ولم يكونوا وثنيين حتى حسب الرؤية الإسلامية لفكرة الوثنية!
ثم امتنع متخذو قرار صناعة تلك الأعمال عن تقديم أعمال تقدم المظالم التى تعرض لها المصريون بعد انتهاء سنوات ولاية عمرو بن العاص مباشرة على أيدى الولاة ومتولى الخراج التى لم تتوقف أبدا حتى دخول مصر فى العصور الحديثة بالغزو الفرنسى لمصر 1798م! وكان لهذا الصمت مردوده فى تمام استقرار تلك الصورة الذهنية الكاذبة عن مثالية الحكم العربى بعد الغزو وتكريسا لهوية منقوصة للمصريين!
(6)
هذا التزييف المتعمد خلق قناعة جماعية لدى تلك الأجيال المعاصرة التى تربت على تلك الأعمال الدرامية، بأن مصر قبل عام 642م لم يكن لها من التاريخ أو الحضارة ما يستحق الانتماء أو الانتساب إليه وأن تاريخ مصر وعزها ومجدها الحقيقى إنما بدأ بعد ذلك التاريخ!
ثلاثة عقود كاملة لم يكن أمام المصريين- الذين لا تمثل لهم القراءة مصدرا أساسيا للوعى- إلا تلك الأعمال وما يسمعونه فى خطب الجمعة لتكوين وعيهم الجمعى وصياغة مواقفهم الذهنية من مختلف القضايا، على الرأس منها كان موقفهم من الهوية المصرية. نشأت أجيال منا ترى أن أجدادنا صناع أعظم حضارة عرفها التاريخ لم يكونوا إلا وثنيين يحاربون الأنبياء!
وترى أن مصر قبل عام الغزو العربى ليست لها هوية تستحق أن نحملها اليوم! وترى أن البطل الحقيقى إنما هو ذلك الفارس البدوى ممتشق سيفه محتلٌ بلاد الغير ومغتصبٌ لممتلكاتها وأحيانا أعراض أهلها! وتغيب عنها تماما صفحات تاريخها المعاصر ولا تعرف من أسماء أبطالها شيئا!
لذلك فقد مهدت تلك الأعمال- جنبا إلى جنب- مع رجال الدين العقل الجمعى المصرى للمشاهد التى عاصرتها مصر فى عام 2012م، التى فوجئ بها كثيرٌ ممن لم يكونوا على دراية تامة بما يحدث على الأرض المصرية.
فماذا ننتظر من أجيالٍ نشأت على تلك الأعمال ولا تهوى استخلاص الحقائق من صفحات التاريخ حين تجد نفسها فجأة أمام الاختيار.. وهناك من يخبرها أنه قادر على أن يخرج بتلك المشاهد من شاشة التليفزيون إلى أرض مصر، فيصبح شبابها أبطالا دينيين مثل هؤلاء الذين دأبوا على مشاهدتهم؟!
ما الذى ننتظره من شعبٍ فوجئ بأن بمقدوره أن يختار بين من سيعيد له العدالة المطلقة كما شاهدها فى (القضاء فى الإسلام)، وبين من يحدثه عن الوطن والأرض والدولة والحضارة والمدنية؟!
ما الذى ننتظره من شعبٍ وجد نفسه- كما أوهمته تلك الأعمال- أنه على مقربة من تحقيق حلم الخلافة التى سيخرج فيها الخليفة صارخا من يريد الزواج فأزوجه؟!
لقد حققت تلك الأعمال هدفها وأسهمت بشكل أكبر ما يخاله الناس فى صناعة الظهير الشعبى الذى ساند المشروع المتأسلم ودفعت مصر ثمنه باهظا..
(7)
لقد آن الأوان لمراجعة تلك الأعمال مراجعة تاريخية موضوعية ونقدية ثم أن يكون لدينا من الشجاعة ما يجعلنا قادرين على اتخاذ قرارات بعينها، مثل أن يتقدم من كان من صناعها على قيد الحياة باعتذار علنى صريح للمصريين على ما تم من تزييف وتزوير للتاريخ سواء بالتزوير المباشر أو بإخفاء صفحات كاملة منه. ♦ثم إعلام المصريين بتلك الأخطاء والخطايا والأكاذيب الواردة فى كل عمل، قبل أن يتم اتخاذ قرار بمنع عرضه على الشاشات المصرية احتراما لتاريخنا وردا لاعتبار هويتنا المصرية!