فتنة حفلات الصيف
أندهش كثيرًا عندما أقرأ لأحدهم وهو يعدد بفخر شديد مزايا العهد الملكى قبل ثورة ٢٣ يوليو، وتأخذنى الدهشة أكثر وأنا أراقب أحدهم وهو يتغزل فى شكل مبانى وسط البلد، ويتبع ذلك بصور سباقات الخيل وملابس النساء فوق الركبة وهن يمشين بدلال وأريحية نحو كوبرى قصر النيل.
هؤلاء البشر من أهلنا فى مصر هم أنفسهم الذين يحاولون إقناعك بأن الحياة وقتها كانت بمبى والجنيه المصرى غلب الدولار.. ويتحدثون بلسان العالم المغوار عن أخلاق البيوتات الكبيرة وأولاد الأصول.. وكأن شعب مصر الباقى فى الغيطان يمرح مع «الخرفان النظيفة» التى كان يتم غسلها بالماء والصابون فى أفلام محمد عبدالوهاب لتناسب شياكة وألاجة فتى مصر الأول وقتها.. هؤلاء الفلاحون سعداء مرحى لا يأتيهم الغم لا من يمين ولا من شمال، بل هم فى أسعد أحوالهم يغنون مع بيرم التونسى محلاها عيشة الفلاح.
هؤلاء.. هم أنفسهم الذين خرجوا هذا الأسبوع يتندرون على حفلات عمرو دياب فى الساحل الشمالى ويحرضون شعبنا الطيب الذى لم يذهب، ولن يذهب إلى هناك قطعًا، على عمرو دياب وجمهور حفلاته وعلى كل الأغنياء بالمرة.
هؤلاء أنفسهم هم الذين تعجبهم حفلات أم كلثوم فى فترة الحكم الملكى.. ويتندرون بالسماع وآدابه فى حضرتها، وكيف كان الرقى بين جمهورها من عمد وأعيان تلك الفترة.
شىء غريب ومريب يتجاوز فكرة الدهشة.. كيف تستخدم نفس الفكرة.. ونفس الموضوع للإشادة بزمن فاروق وأعوانه، ومسترخيًا ومستمتعًا بسرد سيرة أهلنا المنتظرين لحفلات أم كلثوم الشهرية باللب والفشار والكازوزة.. وترفض أن تكون هناك حفلات لعمرو دياب يرتادها بعض الناس هنا أو هناك.
هؤلاء الذين أعمتهم سخافة أفكارهم.. لم تجذبهم أو تلفت نظرهم حفلة محمد منير التى حضرها عشرات الآلاف فى نفس الأسبوع فى الإسكندرية.. وحضرها جمهور غفير لم يدفع الأرقام المبالغ فيها التى سمعنا عنها فى حفلة عمرو دياب.
لا أنظر للأمر هنا من بوابة قيمة كل منهما.. ولا ما يغنيه وتأثيره.. أتابع الأمر فقط من زاوية الباحثين عن أى فتنة لتقسيم هذا الشعب والنفخ فيما يثير أعصابه وعصبيته.
لكن هؤلاء الجهلة لا يدركون أننا تجاوزنا المائة مليون بالفعل.. وأننا متنوعون.. أغنياء وفقراء وبين بين.. ومنا من يحب عمرو دياب، ومنا من لا يستلطفه ولا يستوعب أغنياته على الإطلاق.. من يكره منير ومن يراه أحد أهم مكونات شخصيته وذاكرته.. هؤلاء ينسون أن مسارح مصر التى تديرها وزارة الثقافة كانت كاملة العدد طيلة أيام العيد.. مثلما كانت هناك حفلات لنجوم عرب فى قاعات الفنادق وأماكن أخرى، ومن بينهم راغب علامة على سبيل المثال.. ينسون أن جمهورًا غير قليل ذهب إلى السيرك القومى.. وإلى مسارح الأطفال.. وإلى ساقية الصاوى.. الملايين ذهبوا إلى فيلمى أحمد عز وتامر حسنى وغيرهما، ولا يزال الحضور الجماهيرى فى قاعات السينما التى يصل سعر تذكرة بعضها إلى مئات الجنيهات، فيما تقدم وزارة الثقافة تذكرة شبه مجانية فى سينمات مشروعها الجديد فى ١٤ محافظة، سينما الشعب التى قررت الوزيرة إيناس عبدالدايم أن تكون بعشرين جنيهًا فقط وتعرض نفس الأفلام التى تعرضها المولات الكبرى.
بعض الفنادق فى العلمين والإسكندرية والإسماعيلية ومرسى علم وصلت الحجوزات فيها إلى كامل العدد، رغم أن أسعار الإقامة فيها فلكية.. والصور القادمة من الشواطئ العامة فى مطروح وجمصة والإسكندرية أيضًا فيها آلاف البشر.
ما أقصده.. أن من يريدون البحث عن ذريعة للفتنة.. سواء فيما بين جماهير كرة القدم وتقسيم الناس إلى أهلى وزمالك، والتحريض الفج والغبى فشل تمامًا.. هؤلاء المحرضون السفلة تركوا جمهور كرة القدم العريض وذهبوا إلى جمهور الحفلات.. أو بالأحرى أولئك الذين لم تسمح لهم ظروفهم بالمشاركة فى حضور حفلات عمرو دياب ومن هم مثله.. ذلك التحريض الغبى وأصحابه لا يدركون حقيقة شعب مصر.. هنا أو هناك.
يشكو أهلنا من سوء خدمة هنا أو هناك.. هذا أمر طبيعى فى بلد كبير مثل مصر.. والأخطاء أمر وارد بالتأكيد، والموظفون الفاسدون المتقاعسون موجودون حتمًا، لكن هذا لا ينفى وجود عمال وموظفين وأطباء مهرة فى أماكن أخرى يعملون بما يرضى الله.
أهلنا يريدون الستر.. يتعشمون فى أن تنصلح أحوالهم.. ويحلمون بالمصيف والساحل والشواطئ لاقتناص لحظات سعادة يحتاجونها فى ظل ظروف حياتية ليست سهلة على الإطلاق.. لكنهم فى الوقت نفسه لا يحسدون الأغنياء على أنهم أغنياء ولا يكرهون عمرو دياب لأن له جمهورًا يدفع ثمن تذكرة بالآلاف ليشاركه أغنياته.
هؤلاء.. حتى الذين لا يعرفون أين يقع هذا الساحل على الخريطة.. يحلمون ببلد أجمل.. وظروف اقتصادية أفضل.. لكنهم لا يقبلون على الإطلاق تخريب بلادهم أو دمارها.. وهذا ما يحلم به الخونة المحرضون.
ربما تكون هناك رسائل مهمة فى حفلات هذا الصيف بعضها لعمرو دياب نفسه ومحمد منير أيضًا.. كل منهما لديه ما يقوله لجمهور حدده منذ سنوات بعيدة.. لكنهما مصريان ترفض ما يقدمه أحدهما أو تقبله، تنحاز إلى هذا وترفض الآخر.. هذا أمر طبيعى وبديهى.. وهناك من يرفض المقارنة بينهما من الأصل، وهذا طبيعى أيضًا وأحترم مَن يتبناه.. لكن ما هو غير طبيعى على الإطلاق أن يرى البعض فى جمهور أم كلثوم من الإقطاعيين وتجار الحروب وبعض أعيان ذلك الزمان الغابر جمهورًا مصريًا قمة الذوق والجمال، ويرى فى جمهور عمرو دياب من المصريين أنفسهم «شوية أغنيا خارجين عن الملة».
لا أتحدث هنا عمن يتلقفون ما تلقيه السوشيال من تفاهات على علاته.. ولا أقصد قطعًا أولئك الجالسين خلف شاشات الموبايل يتحدثون فى أى شىء فى أى وقت.. من حوادث القتل إلى وصفات أم أحمد فى صنع الممبار.. إلى قضية كهربا وأموال أبوجبل.. من حواديت طلاق وزواج المشاهير إلى المطاعم التى تبيع لحوم الحمير.
لا أتحدث عن أهلنا الذين ليست لهم متعة سوى البحث عن «لايف جديد» لكنى أتحدث عن هؤلاء المتربصين بأى حدث أو لقطة للقفز عليها وصنع فراغ.. أى فراغ يملأونه بأحقادهم وخيالاتهم لزرع «إسفين».. أى «إسفين».. فى طينة ناسنا التى لا يعرفونها جيدًا.. وبرغم هذه المغالطة الفجة.. فإن هناك شيئًا أعتقد بأهميته فى هذا السياق.. وهو الشعار الذى رفضته الحكومة المصرية منذ سنوات قليلة وأزعم أنها ماضية لتحقيقه.. شعار «العدالة الثقافية».. الثقافة والفنون مجددًا ليستا أمرًا هينًا.. وليستا ترفًا.. وصناعة البهجة وتوزيعها على الجميع من أسوان إلى مطروح ضرورة واجبة.. هذا ما أعتقده وألح عليه.. وعلى فنانينا أيضًا أن يستوعبوا أنهم قد يتحولون دون قصد منهم إلى حطب نيران لإشعال فتنة وقانا الله شرها وشر من يريدها.