«فى الحداثة والتنوير».. روشتة مثقف مغربى لإصلاح الخطاب الدينى
إن مصطلحات مثل التغيير والتجديد والتنوير كثيرًا ما تتردد فى حاضرنا، على مستوى الوطن العربى، تختلف المناهج والرؤى التى تضع الخطط التى يمكن من خلالها الخروج من الأزمات الثقافية والاجتماعية التى تهدد الواقع العربى، ولكن اتفق أغلب المفكرين العرب وغير العرب، القدامى والمعاصرين، على أن النهضة هى ارتفاع مستوى الثقافة والإبداع فى أى مجتمع، وأن المجتمعات المتخلفة هى المجتمعات التى يسيطر عليها الاستبداد، سواء السياسى أو الدينى، مما يجعل وضع الثقافة والإبداع فى تلك المجتمعات متدهورًا.
فى كتابه «فى الحداثة والتنوير والشبكات»، الصادر عن دار «المتوسط» للنشر والتوزيع، يقدم الكاتب والباحث المغربى كمال عبداللطيف قراءة جادة للواقع الثقافى العربى، وكيفية إعادة بناء قيم التنوير فى عالم متغير يسير للأمام، فى مجتمعات تكاد تقدس التراث والماضى، كما يتتبع آثار بعض أشهر رجال الفكر والتنوير فى الوطن العربى فى العصر الحديث، ساردًا آثارهم وجهودهم.
يقول الكاتب فى الصفحة الأولى من كتابه: «إن محصلة ما جرى فى السنوات الأخيرة سيراكم مجموعة من الخبرات السياسية والتاريخية، التى ستؤكد استمرار مساس حاجتنا إلى مزيد من ترسيخ قيم التحديث ومكاسبه، كما تبلورت فى الأزمنة الحديثة».
ويرى الكاتب أن هذا التجديد الثقافى يتطلب إعادة النظر فى القيم السياسية السائدة فى الوطن العربى، التى تشكل أغلبها فى عقود مضت وفى عصور الاحتلال والاستعمار، تلك النظريات التى تجعل تحقيق الحداثة السياسية والتحول الديمقراطى مصيره الإخفاق.
يكمل الكاتب: «نربط سؤال التغيير بمطلب التنوير، حيث لا يمكن فى تصورنا تحقيق التغيير السياسى دون الحصول على تغيير ثقافى».
ولتحقيق ذلك، كما يرى الكاتب، لا بد من التخلص من الفضاء التقليدى الرجعى الذى سيطر على ثقافة الوطن العربى، تحديدًا مع صعود وحضور التيارات التى تنسب نفسها إلى حركة الإسلام السياسى، وإلى إعادة النظر فى الخطاب الدينى التقليدى الذى يتم تسخيره من قبل الأنظمة الاستبدادية للسيطرة على الجموع.
ويقف الكاتب أمام القيم التى ميزت عصر الأنوار فى الفلسفة الحديثة، ولا سيما الفلسفة الفرنسية، التى تشكل من خلالها تلك الفلسفة الحديثة التى ساعدت أوروبا على الصعود والارتقاء، بعد سنوات مرت فى حروب فكرية، بين ما يمكن أن نطلق عليه الوعى الجديد الذى يريد التقدم بما يلائم العصر وبين التقاليد الدينية السائدة آنذاك.
ولأن القيم والأخلاق والحاجات الإنسانية تختلف بمرور الزمن، فإن القيم التنويرية التى ينادى بها الكاتب ليست قيمًا معلبة أو جاهزة، حتى لا تتحول تلك القيم إلى قيود جديدة تكبل الإنسان وتضعه داخل أطر تدفعه للخلف، وتقيد فكره وحريته، ولكنها قيم متجددة تسعى إلى منفعة للإنسان، ليكون قادرًا على التعامل مع إشكالات الحاضر وتناقضاته وكذلك مستجداته.
فى محور آخر، ينتقل الكاتب إلى تقصى الطرق التى تناول بها الفكر العربى المعاصر تلك المفاهيم، ليسرد إنجازات اثنين من أهم رجال الفكر العرب، وهما رفاعة الطهطاوى وخير الدين التونسى، وغيرهما من الذين حاولوا التوفيق بين التراث العربى والمعارف المعاصرة الحديثة، وما واجهه هؤلاء من صعوبات بسبب الهيمنة التى كان يمارسها الموروث الثقافى السائد.
وينتقل كمال عبداللطيف إلى تتبع إنجازات جيل آخر من التنويريين العرب، وهو جيل طه حسين وسلامة موسى وإسماعيل مظهر وفرح أنطون وعلى عبدالرازق وغيرهم، هذا الجيل الذى ظهر أغلبه بعد إنشاء بعض الجامعات التى أدت إلى توسيع مساحة حضور التيارات الفكرية والعقلانية ولا سيما التنويرية، وكان ذلك أثر الترجمات العديدة لكبار الفلاسفة الأوروبيين التى تم نقلها إلى العربية، مما جعل هؤلاء المفكرين العرب بحاجة إلى وضع طرق لمعالجة المشاكل الثقافية والتنويرية الخاصة بالعرب فى ضوء الواقع المجتمعى.
ويرى الكاتب أن «قيم الإسلام كما تبلورت فى التاريخ، لا علاقة بينها وبين ما هو شائع عنها اليوم من أفكار.. فالإسلام فى تاريخه النصى والحدثى أكثر من الأحكام والفتاوى المحافظة المعممة اليوم بواسطة أدوات وقنوات الفضاء الافتراضى، إنه فى روحه العامة عبارة عن جهد فى النظر، وفى التاريخ مشدود إلى المطلق، ولهذا السبب نحن لا نتصور الإسلام دون اجتهاد ودون تجديد».
ويكمل الكاتب فى موضع آخر حديثه عن دور المؤسسات الدينية فى الوطن العربى ودورها فى إشاعة الجمود والتأخر وموقفها من هذا التغيير المطلوب، قائلًا: «إن المؤسسات الدينية تعد بمثابة بؤر للاستبداد الروحى، وأنها تسهم فى تدمير الحرية، فنحن مطالبون اليوم، فى ضوء التحولات الجديدة التى لحقت بالدين طيلة القرنين الماضيين، بمواصلة التفكير فى حرية العقيدة وفى الدين المدنى».
وهذا الكتاب من أهم الكتب التى صدرت مؤخرًا، كتاب يناقش واقعنا الثقافى والاجتماعى والسياسى بمنتهى الموضوعية والجدية، ويطرح الأسئلة التى يجب أن تتعامل معها الأنظمة العربية بكل جدية واهتمام إذا أرادت التقدم وإقامة قيم الحرية والديمقراطية، التى تشكل مفهوم النهضة الحضارية، فالمجتمعات التى تريد التقدم مستحيل أن تبنى على أى نوع من أنواع الاستبداد، سواء الاستبداد السياسى أو الاستبداد الدينى، الذى تقوده المؤسسات التى تتحدث باسم الدين.