جلال أمين وثورة يوليو
يعتبر جلال أمين بحق ظاهرة مهمة فى تاريخ الفكر المصرى المعاصر، فهو أستاذ الاقتصاد المرموق الذى عاد من بعثته فى إنجلترا فى عام ١٩٦٤ ليقوم بالتدريس فى الجامعات المصرية، ثم انتهى به المطاف بالتدريس بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، لكنه لم يكن مجرد أستاذ اقتصاد، أو حتى أستاذ جامعى فحسب، بل كان له تواصله، وربما اشتباكه مع المجال العام فى مصر لعدة عقود.. ويعتبر كتابه "ماذا حدث للمصريين؟ تطور المجتمع المصرى فى نصف قرن ١٩٤٥- ١٩٩٥" الأكثر إثارة للجدل، ولا ينبغى أن ننسى أنه ينتمى إلى عائلة عريقة فى مجال الفكر المصرى؛ فوالده هو أحمد أمين صاحب فجر وضحى الإسلام، وعميد آداب القاهرة، وأخوه حسين أحمد أمين أحد أهم رموز التنوير فى العقود الأخيرة.
ولكن ما يهمنا هنا هو مذكراته الشخصية التى صدرت تحت عنوان "رحيق العمر"، والصورة التى رسمها جلال أمين للحياة العامة فى مصر، وعلى وجه الخصوص الحياة الجامعية فى سنوات الستينيات.. ولا بد من البداية الإشارة إلى الذهنية الناقدة لدى جلال أمين، وأحيانًا الساخرة بشدة، حتى إن المرء يظن أن جلال أمين خُلِق ليقول "لا".
هذه مقدمة ضرورية لفهم طبيعة النقد الحاد الذى وجهه جلال أمين فى مذكراته للسياسات العامة فى مصر، لا سيما فى فترة الستينيات.
بدايةً يرى جلال أمين- وجيله- أنهم توسموا خيرًا لمستقبل البلاد فى السنوات الأولى لثورة يوليو، لكن النتائج كانت على عكس المقدمات: "كان لدينا أمل كبير فى السنوات الأولى للثورة فى أن تتغير إلى الأفضل، وكانت لدينا أسباب وجيهة جدًا لهذا الأمل، ولكن يبدو أن وقت رجوعى من البعثة فى عام ١٩٦٤ كان هو بداية تغير الظروف إلى الأسوأ وانحسار الآمال فى الجامعة، كما انحسرت فى خارج الجامعة".
ويحكى جلال أمين عن صدمته الأولى فى الجامعة بعد عودته من البعثة؛ إذ طلب عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية منه أن ينتقل من كلية الحقوق إلى الكلية الوليدة، لأنها بيت تخصصه الدقيق، لكنه فوجئ بتعيين غيره فى هذا المكان! ويحكى جلال أمين أنه علم بتدخل أحد الوزراء لتعيين آخر مكانه فى الوظيفة الخالية فى كلية الاقتصاد.
ويوجه جلال أمين نقدًا حادًا لمسألة تدخل حكومة الثورة فى فرض مقررات إلزامية على الطلاب: "كانت طريقة حكومة الثورة فى نشر (الوعى) بمبادئها أن تحول كل مبدأ تؤمن به إلى مقرر إجبارى يدرسه أساتذة لا يهتم أغلبهم بالأمر فى قليل أو كثير.. كما يمتحن فيه طلبة يعتبرون الأمر كله ثقيلًا على النفس، وزيادة لا مبرر لها".
ويحكى جلال أمين عن تجربته فى تدريس المقرر الإلزامى "التعاون"، ويسخر أمين من أساتذة الجامعات الذين بادروا بوضع كتب عن هذا الموضوع: "ظنًا منهم أن التعاون قد أصبح هو أيديولوجية الدولة، ثم ظهر أنه لم يكن أكثر من محاولة من جانب حكومة الثورة لتمييز نظامها عن غيره، وأقنعها البعض بأن التعاون هو وسيلة هذا التميز!".
كما ينتقد جلال أمين أسلوب تدريس المقرر الإلزامى "الاشتراكية" على طلاب الجامعة آنذاك، ويحكى قصة أستاذ: "الأستاذ يريد أن يسمى الكتاب (الاشتراكية العربية) كخطوة من جانبه للتقرب للنظام". ويذكر جلال أمين انتقاده تسمية ما يطبق فى مصر من إجراءات اشتراكية بـ"الاشتراكية العربية": "إذ لم أجد سمات خاصة فيما نفعله فى مصر تبرر الزعم بأننا جئنا بنظرية جديدة، أو مذهب جديد فى الاشتراكية".
ويرصد جلال أمين- من وجهة نظره- نقطة فاصلة أخرى وهى هزيمة ٦٧: "تدهورت الظروف السياسية على إثر هزيمة ١٩٦٧، وأصبح الشغل الشاغل للنظام محاولة كسب رضا الناس بأى وسيلة، والقضاء على أى سبب آخر للتذمر، يضاف إلى الهزيمة العسكرية".