مهمة عاجلة لإنقاذ الغناء المصرى
الإقبال غير المحدود على دور السينما فى العيد أمر طبيعى ومعتاد.. فكثيرون من أهلنا يجدون ضالتهم فى خروجة شبه مريحة وغير مكلفة إلى حد ما بالنسبة لقطاعات كبيرة منهم فى ارتياد الحدائق والسينمات.. هذا ما تعودناه لدرجة أن اعتبر المنتجون وأهل الصناعة العيد موسمًا يقاس به نجاح أى فيلم أو فشله.
والمعتاد أيضًا أن تلقى الأفلام الكوميدية أو ذات الطابع الخفيف إقبالًا أكبر.. وهذا تصور غريب لكنه أصبح عادة ورضينا به حكمًا.. دفع الكثير من المغامرين فى أوقات سابقة لإنتاج أفلام عبيطة ومتخلفة ومحرضة على السطحية والابتذال بحجة «البساطة».. ظنًا من البعض أن جمهور العيد.. عايز ينبسط وبس، وليست لديه الرغبة فى تشغيل دماغه أو التعب وبذل الجهد العقلى.. ورغم شيوع هذه الكذبة فإن القاعدة كثيرًا ما تم اختراقها.. وهذا هو ما حدث ويحدث هذه الأيام التى نحتفل فيها بعيد الأضحى المبارك.
أحد الأفلام، ونحن هنا لسنا بصدد الدعاية له أو الكتابة عنه أو تحليله وإن كان يستحق، يتحدث عن وقائع «تاريخية» وعن مقاومة المصريين للاحتلال الإنجليزى فى مطلع القرن العشرين.
هذا الفيلم، وهذا هو المهم فى القصة، يحصد منذ يوم عرضه الأول نجاحًا مبهرًا وحضورًا لافتًا لأجيال وصمناها كثيرًا بالسطحية والتفاهة، وفى أحسن الأحوال بأنهم جيل الموبايل.
هذه الواقعة تؤكد، بما لا يدع مجالًا لأى شك، أن الذوق المصرى بخير.. وأن الأجيال الجديدة بخير.. وأن التنوع لا يعنى على الإطلاق استمرار سيطرة نوع معين من الفن.. سواء كنا نقبله أو نلعنه ونعتبره وبالًا على المجتمع المصرى.
مرة أخرى يفضح أبناء مصر، الراغبين فى استمرار السطحية والتفاهة.. مرة أخرى يلتف شباب مصر حول قطعة من أيامهم الماضية، وهو ما يؤكد أنهم عندما تتوافر لهم مادة تاريخية وعلمية فى شكل فنى جذاب ومحترف فإنهم يقبلون عليها ويزدادون تمسكًا بما نعتقد أنه لم يعد موجودًا.
لماذا أستدعى هذا الأمر الآن؟.. لأننا بصدد حالة من الفوضى العارمة تجتاح صناعة الموسيقى فى مصر.. وبالضرورة فى العالم العربى.. لم يبدأ الخلل قريبًا.. الأمر يمتد إلى سبعينيات القرن الماضى.. بعيدًا عن ظاهرة أحمد عدوية بما لها وما عليها.. فقد حدث عقب هزيمة يونيو ١٩٦٧ أن انهارت منظومة القيم فى مصر.. ووجد المبدعون الحقيقيون أنفسهم فى بحيرة من جلد الذات.. وراح المصريون يسخرون من هزيمتهم على طريقتهم، وزادت السخرية الموجعة فأفرزت تلك الموسيقى الصاخبة التى سرعان ما ابتلعتها رغبة الشعب وأغنيته فى المقاومة، فظهرت فرقة أولاد الأرض فى السويس، وفرق مشابهة فى بورسعيد والإسماعيلية، وظهرت الفنون القصصية التى تستدعى سيرة الهلالى أبوزيد فى الصعيد، وأُجبر المنهزمون على تبنى نظرية المقاومة بالغناء، فخرجت أم كلثوم إلى حفلات المجهود الحربى.. وكذا فعل عبدالحليم ومحمد رشدى وشريفة فاضل وغيرهم، وهناك جيل رائع قدم أعمالًا خالدة فى هذا السياق.. لكن وبعد الانتصار فى أكتوبر وربما قبله بقليل رحنا نبحث عن «زوزو»، وبعد كامب ديفيد والانفتاح الاقتصادى تخلت الدولة تمامًا عن صناعة «الغناء» فى مصر.. فجاء تجار الخردة والمونة والأغذية الفاسدة بكل ما لديهم من مخزون السطحية والتفاهة، وصنعوا موسيقى استمر صداها حتى وقت قريب ولا يزال.
حاول جيل شاب خرج فى سبعينيات القرن الماضى المقاومة، ونجح إلا قليل فى الحفاظ على هوية مصرية إلى حد كبير سمحت ببصيص أمل.. فكان جيل عصام عبدالله ومحمد منير وعلى الحجار ومحمد الشيخ ومحمد هلال وفتحى سلامة وعماد الشارونى ومدحت صالح وإيمان البحر وآل الشرنوبى من بعدهم.. وهكذا استمر الحال..تراجع كبير لأصحاب المواهب والقضايا فى مقابل تغول سافر لأصحاب اللا شىء.. حتى انهارت تلك الصناعة تمامًا بخروج الإذاعة المصرية والتليفزيون المصرى من ساحة الصراع تحت سطوة المال الخليجى الذى نقل شارع الهرم وموسيقاه الفوضوية إلى شاشات السينما وأسطوانات الكاسيت الذى تراجع هو الآخر أمام التكنولوجيا الحديثة.. وسقطت صناعة الكاسيت فى عز سطوة طوفان جديد صاحب ما جرى فى عالمنا العربى من أحداث ما سُمى بالربيع الذى لم يكن عربيًا على الإطلاق.
هذه الفوضى غير الخلاقة امتدت إلى صناعة مؤثرة وبشدة فى الوجدان الشعبى.. وأمام عدم تماسك أى مؤسسة ثقافية وقدرتها على المقاومة راحت تلك الشاشات تستدعى تلك الفوضى من الشارع وتتبناها بزعم الرضا الشعبى للناس عنها.. موجة طويلة من الزار غير المقنن امتد تأثيرها لقطاعات عديدة من الأجيال الجديدة التى استلهمت صيغًا مشوهة من الراب والتكنو وموسيقى الجنوبيين فى الأمريكتين وإسبانيا.. حتى وصلنا إلى ما عرف رغمًا عنا بموسيقى المهرجانات التى دفعت بفنان معروف يتبوأ مقعد نقيب المهن الموسيقية إلى الخروج فى خناقة مشينة- للحالة التى تعيشها- والإعلان عن تنحيه عن المشاركة.. نفس الأمر أجبر كثيرين من قبل ودفعهم إلى الركون والتوارى ظنًا منهم أنها موجة عابرة وستمر.. فيما واصل عمر خيرت وقليلون مقاومتهم على طريقتهم، ونجح جيل جديد وبخاصة ممن توجهوا إلى السينما مثل خالد حماد وخالد الكمار وهشام نزيه فى الهروب من هذا المستنقع من ناحية.. والثبات فى مواجهة ذلك التشظى من جهة أخرى فى ظل عزوف كامل للمؤسسة الثقافية عن وضع مشروع قومى للإنقاذ أعتقد أن وقته حان الآن. وعندما أشارت الشركة المتحدة إلى تدخلها عبر إنتاج أحد البرامج المهمة لاكتشاف وتبنى الأصوات الشابة تصورت أنها البداية- وقد تكون- لهذا المشروع الذى نحتاجه الآن حتمًا.. وها هم شباب مصر وقد التفوا من قبل إلى جوار مبدعى فيلم الممر.. ومسلسل الاختيار.. وحفلات الأوبرا فى المحافظات البعيدة.. وفى حفل افتتاح طريق الكباش ومن قبله حفل نقل المومياوات، ليؤكدوا أنهم صانعو ومبدعو هذا الفن الراقى ومتذوقوه ومستهلكوه أيضًا.
على بُعد أيام منا.. موعد جديد لمهرجان الموسيقى العربية.. وفى السنوات الأخيرة تحول المهرجان إلى مجرد حفلات.. لا فرق بينها وبين أى حفلات تقيمها دار الأوبرا فى الأيام العادية بلا أى خصوصية تذكر.. أرجو من مبدعى المهرجان والقائمين عليه أن ينتهزوا الفرصة لوضع أساسيات وملامح مشروع حقيقى لإنقاذ صناعة الموسيقى والغناء فى مصر.. وعلى الحكومة التى بنت مدينة جديدة للفنون فى العاصمة الإدارية أن تبدأ فى مهمة عاجلة لإنقاذ موسيقانا وغنائنا.. فلا يليق بالجمهورية الجديدة وبمدينة فنونها الراقية والحديثة تمامًا أن تستقبل هذه الفوضى من الموسيقى، وهذا العبث الذى يسميه البعض غناءً.. لا تسمعوا مَن يقول لكم إن شباب مصر يدفعون آلاف الجنيهات ليشاهدوا هذا الزار فى الساحل أو غيره، فهى طفرات مؤقتة.. لا علاقة للذوق الحقيقى للمصريين بها.. هى نفس رغبة أطفالنا فى مشاهدة ألعاب السيرك والأراجوز ليس إلا.. إلا أن وجههم وذوقهم الحقيقى ها هو ينتفض ويستمتع.. يبكى ويضحك.. ويغنى مع تاريخه وحضارته فى مثل ذلك الفيلم الذى يعرض فى إحدى سينمات العيد.
مهمة إنقاذ الغناء المصرى ليست رفاهة.. ولا من قبيل الترفيه.. ولا هى تغييب لفقه الأولويات.. فالمهندس الفنان يبنى بيتًا جميلًا.. والمهندس الذى لا يملك ذوقًا يبنى تلك المدن العشوائية التى نهدمها الآن لنبى من جديد.