كسر التابو
كانت أضغاث أحلام أن يجرؤ أحد على مجرد التشكيك في أن الحجاب فرض على المرأة، أو أن يقول أحدهم إن الحجاب ليس فرض عين على النساء، قال ذلك الشيخ الترابي من قبل ومرت كلماته مرور الكرام رغم مكانته أو ربما لمكانته.
وقال ذات الكلام جمال البنا، شقيق حسن البنا، وقوبل كلامه باستهجان كبير، وقال كذلك أيضًا الدكتور حسن حنفي، أستاذ الفلسفة والفكر المعاصر، الذي صك مصطلحا وأصلا لفكر وتيار اليسار الإسلامي وتتلمذ على يديه طلاب جامعة القاهرة لسنين وحتى رحيله وتكبد المستشار سعيد العشماوي ما تكبد عندما تحدث أيضًا عن الحجاب وأنه ليس فرض عين على النساء وكذلك الشيخ خليل عبدالكريم والذي كان يلقب بالشيخ الأحمر لربطه بالشيوعية، وكان يعتبر مارقًا زنديقًا وشيخًا شيوعيًا فقتل، وكذلك من لقبه الإخوان بالشيخ ميزو، وهو عضو في حزب التجمع وتم سجنه بتهمة ازدراء الدين الإسلامي رغم أنه من خريجي الأزهر وكان له دور بارز في الثورة المصرية ومناهضة فكر الإخوان والوقوف في وجههم والتصدي لهم، ولكن وللأسف ردد كثيرون ذات اللقب على هذا الشيخ الذي عانى من التنمر ومن تجربة السجن القاسية حتمًا وصار الشيخ الرفيق من سجناء الرأي بسبب مادة ازدراء الأديان،
وبالتالي لم تكن تلقى مثل تلك الآراء والأطروحات أي قبول أو استحسان.
وكان الحجاب تابو كبيرا وبرجا عاجيا لا يستطيع أحد الصعود إليه لضحده أو حتى مجرد الحوار بشأنه أو المساس به أو التشكيك في لزوميته أو فرضه على النساء بآية صريحة في القرآن أو بأمر إلهي.
أما الآن، وبعد سنين وتراكم ونضال وتجديد وتغيير طال مناحى عديدة في المجتمع وفي الحياة، صار الحديث بأن الحجاب ليس فرضًا شيئًا عاديًا وأمرًا معتادًا يسمح فيه بالنقاش والأخذ والرد، ولاقى كل ذلك آذانًا تسمع، بل وخلعت العديد من النساء ذلك الحجاب بعد انكشاف دوافع تيار الإسلام السياسي وإدراك حقيقة دعاة الفضائيات وأنهم مجموعة من المرتزقة والمنافقين الأفاقين والمتربحين، وأن غايتهم كانت الشهرة والثراء وتديين المجتمع وإخضاعه، وتحديدًا إخضاع نسائه.
وأدركت الغالبية العظمى أيضًا وبعد سنين أن غطاء الرأس ما هو إلا عادة لا عبادة، وأنه ليس فرضًا على النساء، في حين يوغل البعض- حتى الآن- في جعل الحجاب في مقام الصلاة، وبطلت كذلك- مع كل ذلك التغيير والتطور- نغمة «حتحجب إن شاء الله»، «أما أحج حتحجب» أو «لو مرضت سأتحجب كي لا أدخل لجهنم بعد رحيلي»، أو ما كان يقال عن انتظار هداية الله، فكانت تقول الفتاة «ربنا يهديني» لأني عاصية ونفسي أتحجب ولكن مش قادرة.. كل تلك الترهلات التي كانت تمثل قناعات ومسلمات كُسرت وحطمت وانتهت للأبد، وأدركت الغالبية أنها كانت مجرد تابوهات، والتابوهات كثيرة وللأسف ويسقط كل يوم منها تابو تلو الآخر، وعندما يسقط تابو نجد أن الخيط يمد على استقامته ويكر ليسقط ويلحق بالتابو الذي سقط تابوهات أخرى.
وصار النقاش حول الحجاب والتابوهات عمومًا أمرا متداولا ومطروحا وليس أمرًا مقضيًا ترفع فيه الأقلام وتجف الصحف، الأقلام لم تعد ترفع وصرنا نكتب ونتحدث، وصارت الصحف تنشر ما نكتب ولم يجف حبرها أو يتوقف سعيها للتنوير والتغيير والتجديد.
لقد كسر تابو الحجاب يا سادة بعد سنين من المعاناة والتنمر ضد المرأة غير المحجبة ونعتها بالعاصية- على أقل تقدير- إن لم يصل الأمر لحد تكفيرها أو وصفها بما لا يليق، وأنها حل مباح ومشاع للجميع، وأنها كالحلوى المكشوفة وبلا شرف ويطال أهلها كذلك العار، ولم تكن تجرؤ فتاة تسكن في حي شعبي أن تسقط تلك الطرحة من على رأسها.
وما زال الأمر هكذا في الأقاليم والمناطق الشعبية لا لاقتناع بالحجاب أو لأنه فرض، بل لأن الشارع لم يعد آمنًا على النساء، وأن معدلات التحرش والتنمر وجرائم الخطف والاغتصاب ما زالت قائمة وتمارس بدوافع من الكبت وطاقة الكراهية الشديدة التي تصدر للمرأة لعجز الذكر عن أن يطالها، حتى وصلنا للقتل والابتزاز كطريق للاستحواذ على المرأة بعد إخضاعها وتركيعها.
مَن ألبس نساء البلاد طرحًا بالترهيب والترغيب، ومن ثم الخداع والابتزاز الاجتماعي والعاطفي، انكشف أمره ولم يعد له نفس التأثير الذي كان له في السابق، وشباب البلاد من الجيل الجديد أدركوا مؤخرًا كذب الدعاة ونفاقهم.
فمن قال لهم إن من يتزوج بغير المحجبة رجل ديوث، تزوج من فنانات وغير محجبات فسقط قناع الداعية وأدرك الشباب هشاشة وفجاجة تلك الأكذوبة الكبيرة التي عاشوا فيها مع هؤلاء الدعاة منذ التسعينيات حتى سقطت الكثير من الأقنعة ولم يعد لهؤلاء ذات السطوة والهيلمان والهالة الماكرة التي كانت تحيط بهم، واحتجب هؤلاء عن الظهور الآن على الشاشات، وصار بينهم وبين المتلقين حجاب حقيقي وحواجز نفسية وفكرية، ولم يعد يتفاخر هذا الداعية أو ذاك بأنه استطاع أن يلبسنا الطرح، كما طلب مرشد الجماعة من الرئيس جمال عبدالناصر.
وصرّح الأخير بتلك الحكاية وذلك المطلب علنًا في أحد خطاباته، والتي يتم تداولها الآن على مواقع التواصل الاجتماعي، فمرشد الإخوان منذ الستينيات من القرن الماضي أراد أن يلبسنا الطرح مستغلًا عادات وزي أهل الريف والمناطق الشعبية التي تستخدم عادة غطاء الرأس لتحتمي به سيدة الريف التي تعمل في الغيطان من أشعة الشمس الحارقة.
وكانت بنت البلد تستخدم ذات الغطاء المزين للزينة، وكان يسمى «المنديل» لا الطرحة، وكان يطلق عليه تحديدًا «المنديل أبو أوية» والمعروف بألوانه الزاهية وكان يلبس بغرض الزينة لا إخفاء الرأس أو الشعر.
أما مصطلح الطرحة والحجاب فلم يكن في مكوننا الثقافي، ولم يكن له وجود في تراثنا حتى ظهر «التربون» وارتدته الجدات والمسنات كنوع من الاحتشام وإضفاء مكانة ما عليهن بحكم طبيعة السن والمرحلة العمرية اللاتي يعشنها، وكانت تلك عادة مستوردة وصلتنا من الأتراك والتأثر بفترة حكم العثمانيين لبلادنا لسنين طويلة.
أما الآن وبعد كل ما مررنا به من خضات وثورتين وانكشاف الكثير من الحقائق وتعرية الكثير من النفوس والشخصيات العامة والمشهورة، لم يعد يكسرنا أحد ولا يستطيع أحد أيضًا ابتزازنا أو ترهيبنا، ولم تعد أعيننا ترى تحت أرجلنا فقط، بل ولم نعد نخشع لهؤلاء، ولن يستطيعوا بعد اليوم معايرتنا أو القول بأنهم نجحوا أو استطاعوا إلباسنا الطرح بالترهيب والترغيب والابتزاز على طريقة و«لبسناكم طرح»، ليتحقق حلم الجماعة الإرهابية ومرشدها الذي أراد إلباسنا الطرح فلبسها هو، بل وانتقب متخفيًا ليخرج متسللًا متنكرًا من الاعتصام الربعاوي المسلح في زي امرأة، نعم لقد أراد مرشد الجماعة إلباسنا الطرح فلبسها هو، وسقط حكمه في الثلاثين من يونيو بعد ما ألبس الشعب المصري مرشد الجماعة الطرحة ولم يستطع هو إلباسها لنا أو فرضها علينا، والفضل كل الفضل للشعب المصري وجيشه وثورة الثلاثين من يونيو التي من بعدها لن يستطيع بل ولن يجرؤ أي من كان أن يقول للمصريين أو لنسائهم «لبسناكم طرح».