يوليو أسود سريلانكى جديد
المتظاهرون ملأوا الشوارع والميادين، وقبل أن يتمكن بعضهم من اختراق حواجز الشرطة واقتحام المجمع الرئاسى فى العاصمة كولومبو، غادر جوتابايا راجاباكسا، الرئيس الثامن لـ«جمهورية سريلانكا الديمقراطية الاشتراكية»، أمس الأول السبت، مقر إقامته الرسمى. وفى وقت لاحق، أعلن ماهيندا يابا أبيواردينا، رئيس البرلمان، عن اعتزام راجاباكسا الاستقالة من منصبه بعد غدٍ الأربعاء، لضمان انتقال سلمى للسلطة.
فى مثل هذا الشهر سنة ١٩٨٣، تم استهداف جنود فى الجيش السريلانكى، بكمين نصبته حركة «نمور التاميل»، فردّت الأغلبية السنهالية بأعمال انتقامية ضد الأقلية التاميلية، استمرت ستة أيام، باتت معروفة باسم أحداث «يوليو الأسود»، واشتعلت على إثرها الحرب الأهلية، التى كانت متقطعة، وتوسعت واستمرت، ولم يتم حسمها إلا فى مايو ٢٠٠٩، بسيطرة الجيش السريلانكى على آخر جيوب التاميل، ومقتل فيلوبيلاى برابهاكاران، زعيم الحركة، التى ألقت سلاحها وأنهت التمرد. ووقتها، كان الرئيس الحالى، وزيرًا للدفاع وقائدًا للقوات المسلحة، بينما كان شقيقه ماهيندا راجابكسا، رئيسًا للبلاد.
الجزيرة الواقعة فى جنوب شرق آسيا، استقلت عن بريطانيا، نظريًا، سنة ١٩٤٨، لكن الاستقلال الفعلى لم يتحقق إلا سنة ١٩٧٢، بإقرار الدستور الذى أسس «جمهورية سريلانكا الاشتراكية الديمقراطية». غير أن هذا الدستور جعل البوذية دينًا للدولة، ما أغضب التاميل الهندوسيين، الذين يشكلون حوالى ١٢٪ من السكان، ودفع «الجبهة الموحدة لتحرير التاميل»، إلى المطالبة بانفصال المناطق التاميلية، شمال وشرق الجزيرة، ولم ينجح دستور ١٩٧٨ الذى أقر برسمية اللغتين السنهالية والتاميلية، فى تهدئة هذه الجبهة، بل أدى إلى ظهور حركة «نمور التاميل»، وهى حركة مسلحة، أرادت أيضًا فصل مناطق التاميل عن السلطة المركزية.
المهم، هو أن الحرب، التى استمرت ٢٦ أو ٣١ أو ٣٧ سنة، راح ضحيتها أكثر من مائة ألف قتيل. ونرى أنها قامت بالتغطية على معجنة سياسية لم تشهد مثلها دولة فى العالم، كان من بين نتائجها أو مظاهرها أن تشاندريكا كماراتونجا، حين فازت فى انتخابات الرئاسة، سنة ١٩٩٤، قامت بتعيين والدتها سيريمافو باندرانايكا رئيسة للحكومة، التى سبق أن ترأستها مرتين بين عامى ١٩٦٠ و١٩٧٧، والتى كان يرأسها، زوج الثانية، ووالد الأولى، إس دبليو أر دى باندرانايكا، منذ سنة ١٩٥٦ حتى اغتياله سنة ١٩٥٩.
بالمثل تقريبًا، قام جوتابايا راجاباكسا، بعد فوزه فى انتخابات الرئاسة سنة ٢٠١٩، باختبار شقيقه الأكبر ماهيندا راجاباكسا، رئيسًا للحكومة، التى سبق أن ترأسها سنة ٢٠٠٤، قبل أن يصبح الرئيس فى العام التالى. ومع ماهيندا وجوتابايا، كان شقيقهما الثالث، تشامال، يتولى وزارة الزراعة. ولهم شقيق رابع اسمه باسيل، كان يتولى وزارة المالية. كما تولى نامال، أكبر أبناء ماهيندا، وزارة الرياضة، وشغل شقيقه يوشيتا منصب مدير مكتب رئيس الوزراء. وكلهم استقالوا مع ماهيندا، فى ٩ مايو الماضى، بعد احتجاجات بدأت أوائل أبريل.
إلى جانب هذه المعجنة، عانت سريلانكا أيضًا من الإرهاب. ولم يحُل تحذير أمنى، أو مخابراتى، من اعتزام انتحاريين الهجوم على «كنائس بارزة»، دون حدوث ٨ تفجيرات متتالية، فى ٢١ أبريل ٢٠١٩ راح ضحيتها أكثر من ألف، بين قتيل وجريح. إذ أظهرت وثائق أن بوجوث جاياسوندارا، قائد شرطة سريلانكا، كان قد وجه تحذيرًا لكبار الضباط قبل ١٠ أيام من وقوع الهجمات، كان نصه كالتالى: «تفيد وكالة مخابرات أجنبية بأن جماعة التوحيد الوطنية تخطط لتنفيذ هجمات انتحارية تستهدف كنائس بارزة». وجماعة «التوحيد الوطنية» هى حركة إرهابية محسوبة على الإسلام، قامت سنة ٢٠١٨، أيضًا، بتدمير عدد من التماثيل البوذية.
.. وأخيرًا، هناك طبعًا أزمة اقتصادية طاحنة، فاقمها وباء كورونا، وزادتها الأزمة الأوكرانية سوءًا، وجعلت الدولة، التى يسكنها ٢٢ مليون نسمة، عاجزة عن سداد أقساط ديونها أو السيطرة على انهيار قيمة عملتها أو إنهاء شهور من نقص الوقود والغذاء والأدوية والسلع الأساسية الأخرى، غير أن الصورة لن تكتمل لو تجاهلت المعجنة السياسية، التى بدأت قبل يوليو ١٩٨٣ الأسود، ولم تتوقف بعد انتهاء الحرب الأهلية وعودة الاستقرار النسبى، وقادت، مع الأزمة الاقتصادية الطاحنة، إلى يوليو الأسود الحالى.