«عصور دانيال فى مدينة الخيوط».. ديستوبيا العيون الزجاجية!
فى المدينة التى يسيطر عليها الظلام، ويعيش قاطنوها كالدمى بعيون «زجاجية زائغة ومترعة بالتيه»، لا ترى سوى التعاسة لأن «الأصل فى الحياة هو التعاسة، طرق ملغمة بالأحزان والخسائر»، تلك المدينة التى «لن تتغير لأن تغير المدينة قد يؤدى إلى مدينة أسوأ»، حينها يمكن للإنسان فيها أن يفقد تقدير الزمن، ويدرك جيدًا أن صمته «كان نجاة للجميع فى حين صمت الجميع مهلكة لهم».
فى رواية هى الأهم والأجمل على مستوى الإنتاج الأدبى المصرى بل والعربى لعام ٢٠٢٢ حتى الآن، يقدم الروائى أحمد عبداللطيف رواية غير طبيعية تصف حياة وواقعًا غير طبيعى «عصور دانيال فى مدينة الخيوط» الصادرة عن دار العين للنشر والتوزيع، يتأمل الكاتب فيها من خلال سرديته وضع الإنسان فى العالم وهذا الكون، منطلقًا من مجتمعه، صانعًا مدينة وعالمًا قد يبدو خياليًا، ولكنه واقعى يعبر عن مأزق إنسانى عام، وعن مأساة تحمل فى طياتها صورة لملهاة كبيرة، أبطالها هم مجرد دمى يتحكم فيهم آخرون، هؤلاء من يمسكون الخيوط ويعرفون كيف يحركونها جيدًا.
على الأرض التى يؤمن الإنسان فيها «بالحلم أكثر ما يؤمن بالحقيقة، يصدق صوت الفطرة أكثر ما يصدق صوت العقل»، ولد الإنسان أو بطل الرواية دانيال، اسم دانيال تم اختياره أيضًا بسبب الإيمان بالوهم والخرافة، تمت تسمية بطل الرواية بهذا الاسم من قبل عرافة غجرية. أى مولد هذا الإنسان كان محاصرًا بالجهل وربما الوهم الذى سيظل مصاحبًا له طوال حياته ورحلته فى الحياة، حياة لا يوجد فيها فارق بين الثابت والمتحرك، بين الحقيقة والخيال.
مع مولد «دانيال» تبدأ المأساة، مأساته الخاصة المتمثلة فى مدينة غارقة فى بحور من الوهم لا توجد فيها حقيقة يستطيع لمسها، بل خواء، لا وجود لشىء يقينى أبدًا، حتى فى المدرسة الدينية التى ذهب ليتعلم فيها قيم العدل والمحبة والمساواة والإنسانية، وجد الشيخ «المعلم» شاذًا جنسيًا واعتدى عليه وترك بداخله جرحًا غائرًا لا يمكن إزالته، تلك الحادثة لن تترك فقط علامة وجرحًا داخليًا، بل ستترك جرحًا خارجيًا حيث الندبة التى حدثت إثر صفعة تلقاها دانيال من أبيه بعد أن علم الأب أن ابنه كان سببًا فى موت الشيخ الذى اعتدى عليه جنسيًا، هنا أنت أمام إنسان وهو لا يزال بعد فى مراحل عمره الأولى قام العالم بتشويهه، أصبح مليئًا بالجروح الداخلية العميقة وجروح أخرى ظاهرة، وكلا الجرحين غائر لا يمكن معالجتهما.
يقول دانيال «كأن المدينة خلقت فى هذه اللحظة وأنا آدم تائه فى الظلام، تائه فى أرض غريبة، تائه فى صحراء بلا نجوم، فلا أعرف حتى ظلى»، ثم يواصل «أن أكون ظل طيف شبح شخص بلا وجود تراه فى الشارع فلا تبصره، تمد يدك إليه فلا تلمس إلا الوهم». هذا الإنسان الضائع المشتت، كان يبحث عن وجوده ولذلك لم يجد طريقًا للنجاة سوى الكتابة، فمنذ «بداية الظلمة وهو يكرس حياته للكتابة كأنه يسابق الزمن وكان يراكم الأوراق كأنه سيصنع هرمًا يدفن فيه كفرعون مصرى قديم».
وأسفل هذه المدينة مدينة أخرى «يحدد ساكنوها مَن الناجون ومَن الفاشلون» هذه المدينة السفلى تسمى الأرشيف، وهو قلب المدينة، يعمل من به على تدجين القاطنين على سطح المدينة، وتحويلهم إلى دمى، يعمل دانيال فى هذا الأرشيف، ليعرف حقيقته التى يخشاها ومن ثم حقيقة المدينة، وهنا يدرك أن الجهل هو الوجه الآخر للراحة، وأن التعاسة والشقاء يكمنان فى المعرفة، التى قد تكون سببًا فى موت صاحبها.
استطاع الكاتب أحمد عبداللطيف فى روايته تقديم رؤية فانتازية تستطيع أن ترى من خلالها الواقع بكل ما فيه، عن طريق تقسيم الرواية والواقع إلى بنيتين، بنية فوقية تعكس البنية التحتية بكل ما فيها، والعكس صحيح، كان فعل ذلك بلغة قوية تشبه المقطوعة الموسيقية، ربما مقطوعة «رومانس لارجيتو» أو كبيت الشعر، فكل جملة تكون معبرة عن الحالة والموقف بأقل عدد من الكلمات، معبرة عن حال الشخصية وأزمتها، اللغة الشاعرية هنا تأتى لتخدم الحقيقة الغائبة وتعمقها، فاللغة هنا -غير معتادة- هى الموسيقى والصوت الذى يستطيع أن يصل إلى القارئ الذى هو جزء أصيل فى الحكاية، ولذلك فالقارئ سيدرك جيدًا أن كل ما يراه ويسمعه هو الواقع بعينه.
اللغة فى هذه الرواية تم توظيفها بمنظور رومانسى يحاول فرض النظام على الفوضى.
لأن مع القراءة ستتوحد رؤية المتلقى مع رؤية دانيال، وسيشعر القارئ أنه دانيال آخر وربما إبراهيم هذا الشخص الموجود داخل الرواية الذى يمكن هو الآخر أن يكون صورة من دانيال أو دانيال نفسه، دانيال الذى قال: «إن ما أريد أن أهرب منه ليس فى المدينة، وليس فى الشارع الرئيسى، وليس فى بيتى، ولا غرفتى، لأن ما أريد أن أهرب منه يسكن بداخلى وسيبقى للأبد لأنى سأحمله معى فى كل مكان».