رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أخطار افتتاننا بمجاذيب الصوفية

لدى المصريين عموما حبهم الكبير للطرق الصوفية وأهلها، وحفاوتهم بأذكارها وأورادها وغنائها الآسر الحميم، وسعيهم إلى زيارة مقامات المشايخ ذوي الكرامات المحكي عنهم في الكتب القديمة، والموروثة قصصهم الطيبة المدهشة من الآباء والأجداد، وفي هذه الزيارات يقومون بإشعال الشموع، كنوع من لقاء مشايخهم بالأنوار التي يعرفونها فيهم ويرجونها منهم، ولديهم افتتان بمجاذيب الصوفية يفوق الوصف، وكما يصدقون مدد الموتى يصدقون مدد الأحياء وزيادة، لا سيما المجاذيب، وإذا كان مجذوب الحي هو مجنونه، فإن الرجل المجذوب، عند الصوفية، رجل جذبه الحق إلى الحضرة الإلهية.
في العادة، لا يكون المجذوب الصوفي مهندم الملابس ولا نظيفا، هذا هو الأساس الشكلي، وقد يزيد في شكله عن هذا الوصف وقد ينقص (يكون أحيانا عاريا أو شبه عار ومالكا أدوات شتى لأسفاره وجولاته الفسيحة أو دون ذلك)، إنما الغالب عليه غرقه في حال شخصي غامض، وتفوهه بعبارات لا يفهم معناها سواه.. غير أن التاريخ، أعني تاريخ الصوفية، يفرد صفحات طوال للمجاذيب، يعظم فيها أحوالهم، ويثني على قدراتهم، ويصفهم بالمباركين الذين يرقون إلى سماء ربهم بلا وسطاء، ولا يشترط فيهم أداء التكاليف بالمناسبة؛ لأنه يعتبرهم غائبين عن الأرض بانصراف هممهم إلى "الملأ الأعلى"، وقد شاعت تلك الأقاويل في الأزمنة كلها، بجانب روايات التجارب الشخصية الإيجابية مع المجاذيب، وتناقلها الناس من زمان إلى زمان؛ حتى وصلت إلى زماننا الحداثي، بما يمكن أن يكون دخل فيها من الأساطير والخرافات واللا معقوليات، فوجدت مكذبين طبعا، بحكم الإيمان المنتشر بالعقل والعلم، لكنها وجدت مصدقين أيضا ممن غلب اعتقادهم بصحتها عقولهم وعلومهم. وعموما فإن الظاهرة تتسع كلما أوغلنا في الظلام، وابتعدنا عن الضياء بشمولية معناه!
لم يترك اللصوص والمحتالون ظاهرة كهذه تمر بسلام، لكنهم استغلوها للانتفاع بها والتربح منها؛ فنزلوا القرى والنجوع، في أقاليم الصعيد والدلتا بالأخص، لأن هذه المناطق تحوي وفرة من بسطاء المعارف أنقياء القلوب الذين يكرمون الغرباء، ولا  يتشككون فيهم مطلقا، كما أن فيها غفلة أمنية كبيرة.
حملوا الجلابيب الممزقة والمرقعة التي كجلابيب المجاذيب، والمصاحف والكتب الطلسمية والسبح والعصي وأحزمة الأوساط والأجولة والطبول والمزامير وصفائح الماء بأحبالها، وجميع ما يلزمهم، ونزلوا البلدان الصغيرة النائية، وانتقوا أماكن معينة للسكن، كالمقابر والخرائب وهوامش الزروع ومتون الجبال وجوار الأولياء والبئار، بالإضافة إلى السوح المهجورة، لأنهم دارسون ممتازون للإيهام الذي ينتوون القيام بصنعه.. هنالك صنعوا إيهامهم بالفعل وكسبوا أموالا وسلطة معنوية فوقها!
خطورة شخصية المجذوب أنها تمحو الشخصيات كلها لتثبت شخصيته هو نفسه (إن صادقا أو مخادعا)، وتربي الناس على الانصياع والتواكل والاعتماد الكلي على ما تجود به الغيوب، وتقتل التفكير، وتحصر اليقين في دائرة بائسة ضيقة، وتمنح الوضيع رفعة فتجعل الحاضر والمستقبل رهن إشارته.