هو إحنا ليه ما بنعرفش نفرح؟!
معظم أبناء جيلى ممن تحصّلوا على متعة الفرجة على الشاشة الصغيرة لم تكن لديهم أى أسباب للرفاهية، لكنهم وأسرهم البسيطة كانوا قادرين على صنع أسباب للفرح.
لم نكن نعرف الأحذية إلا قليلًا.. ولذا كان العيد فرحة لشراء حذاء جديد.. وجلباب أبيض جديد- لم نكن قد عرفنا موضة البنطلونات بعد- والجلباب الجديد يتم وضعه تحت المرتبة أو المخدة حتى يظل متساويًا.. لم تكن قرانا قد عرفت المكاوى بالكهربا.. لأنه لم تكن هناك كهرباء.. فجاء التليفزيون.. وجاءت المكاوى الكهربائية قادمة من الخليج.. مثلها مثل «الخلاط» و«المروحة» و«العجلة».
حتى «البسكلتة» لم نكن نقدر على الحلم باقتنائها.. هما شخصان فقط فى البلدة بأكملها يملكان هذه الرفاهية.. ساعى البريد وموظف الرى.
أما كرة القدم.. وهى اللعبة الأشهر وسط الألعاب البدائية التى كنا نعرفها.. فهى الأخرى كانت بدائية وسهلة.. من بقايا الجوارب.. «الشرابات» بلغة تلك الأيام.. ننتقى جوربًا واسعًا متينًا ونقوم بلفه بعد كبسه ببقايا قماش.. نلف عليه شرايط القماش تلك ثم ندهنه بالمازوت أو مادة مشابهة.. أما الكور البلاستيك أو الكفر فهى مستحدثة إلى حد ما.. ورفاهية وحلم أكبر من قدراتنا.. ورغم ذلك كنا نفرح.. نلعب ونفرح.. وقمة السعادة كانت يوم اصطحاب أهليتنا لنا لشراء «كوتشى» من «باتا».. وتبقى مهمة الحفاظ عليه حتى العيد التالى مهمة مقدسة.. كان كل شىء بسيطًا ومتاحًا وكنا نفرح.
وعندما أطل التليفزيون.. بساعات إرساله القليلة وبرامجه الأقل عددًا.. المذاعة بالأبيض والأسود.. كان مجرد الالتفاف حول مذيعة الربط حدثًا مهمًا.. وكانت الفرجة على سينما الأطفال أو عالم الحيوان مع محمود سلطان حدثًا غاية فى الندرة.. فليس كل البيوت يملك هذه الرفاهية، وكنا رغم ذلك نفرح.
معظم الزيجات كان يتم فى المواسم.. غالبًا قبل أو بعد الأعياد بقليل.. وكانت فكرة أن تجىء «الخياطة» إلى منزل العروس.. أى عروس تسكن بجوارنا.. ليس شرطًا أن تكون من بنات العائلة- حدثًا فريدًا بالنسبة لبنات «النجع» كله.. فهؤلاء هن الرفيقات اللاتى سيجلسن بالأسابيع بجوار «الخياطة» لمساعدتها وإرشادها إلى «الموضة» و«الذوق».
تلك الأيام كانت هوسًا وحدثًا للرجال أيضًا والشباب منهم على الأخص.. مثلها مثل العيد تمامًا، أما نحن الأطفال.. فهو الفرح الأعظم.. ليال ونحن نتلقى «صفائح السمن» من الجيران.. قبل أن تتناولها أيادى النساء المشغولة بصنع الغريبة والناعم والكحك والغناء.. أما أغلبنا فكانت مهامه العديدة مع «المنجد» ليست بالقليلة.
ورغم التعب والسهر والتفاصيل الصغيرة.. كنا نفرح.
ليلة الحنة.. أو ليلة الفرح.. أو كلتاهما معًا.. عيد آخر، سواء كان نجم الحفل «شاعر الربابة» أو «شيخ الحضرة».. أو «فرقة المزمار البلدى».. فجميعها يؤدى إلى البهجة وفى الطريق حتمًا ستكون هناك فرحة للعب «السوه» أو ما نسميه فى علوم الفلكلور بالتحطيب.. وكل واحد- كبير أو صغير- وعصاه.. التى اشتراها من «على الكوبرى».. من خيزران مستورد.. وأتى لها بذيل جاموسى ونقعها فى الزيت لأيام سابقة للفرح بعد أن ذهب بها للصرماتى ودق «القلوة» بالمسامير المدهبة من ناحية الرأس فى انتظار الليلة الموعودة، حيث تكون لدينا ساعات طوال لنفرح.
لم يكن آباؤنا أو أجدادنا.. أو أهالينا من أصحاب الملكيات الكبيرة.. ولا البيوت الأسمنتية العالية.. معظم بيوتنا كانت من دور واحد.. وبعضها مبنى بالجواليس أو الطوب الأخضر فى أحسن الأحوال.. لم نكن نعرف التكييف فى الحر.. ولا المناقد الكهربائية والدفايات فى الشتاء.. وكنا نفرح.
لم نكن نملك السيارات الفارهة ولا غير الفارهة.. واللى ركب «القشاش» فى سفرية مفاجأة لطبيب فى أسيوط أو القاهرة يعد من الأغنياء.. ورغم أن أفراحنا كان يجيئها الأحباب بالحمير أو الأحصنة فى أحس الأحوال، والعروس نفسها يتم زفافها فى «هودج»- على جمل يعنى- وكنا نفرح.
لم نكن نسمع عن أى مشروعات تقيمها الدولة فى بلادنا.. ولا فرن عيش حتى.. لم نكن نسمع عن مراكز الشباب ولا السينمات «أهل البندر ربما كانوا يعرفونها» ولا المستشفيات الخاصة ولا المدارس الخاصة ولا الدروس الخصوصية.. وكنا نفرح.
الآن.. أتعجب.. من عدم قدرتنا على اقتناص لحظات الفرح حتى مع وجود مشروعات جديدة.. أو انتصارات مهمة فى مجالات متعددة.. صرنا نملك كل الذى كنا نعده قبل خمسين سنة من النوادر والفواحش، ولم نعد نستطيع القبض على جمر الفرح.. صرنا مشدودين إلى «التيك توك».. و«الفيس» و«تويتر»، صرنا نستقبل فقط ما يمليه علينا مجهولون رتبوا أجندة فرحتنا وصرنا خلفهم وكأننا مربوطون إلى تلك الشاشة اللعينة. وتعودنا على مشاهد «الذبح والقتل.. والسفه».. لم تعد برامج الطعام والموضة والأزياء وتلك التى تستضيف المطربين التوافه ترضينا.. أصبحنا نبحث عن الفرح فى السوشيال ميديا.. وتركنا حياتنا الطبيعية تمامًا.. وإن تذكرناها فإن ذلك غالبًا ما يحدث بالصدفة.. أو بحثًا عن حدث مثير سمعنا عنه أيضًا من السوشيال ميديا التى امتلكتنا تمامًا.
القاهرة مدينة الألف مئذنة.. ها هى مساجدها وقد تزينت تمامًا بعد أن تراجعت إصابات الكورونا وفزعها.
دور السينما عادت إلى عصورها الزاهية.. ودخلت وزارة الثقافة إلى الميدان مجددًا بمشروعها الهائل المدهش «سينما الشعب».. وعاد معظم مسارح الدولة ليعمل من جديد.. آلاف المطاعم والمقاهى و«الجناين» فى قلب العاصمة وفى كل المدن الساحلية ونحن لا نفرح.
هل فقدنا القدرة على البهجة.. هل استطاع أولئك المتشائمون بقصد أو بغير قصد تدمير خلايا البهجة فى أجسادنا؟!.. لا أعرف ولا أظن أحدًا يعرف ممن أعرفهم عن قرب.. ربما لدى أطباء مصر وأساتذة جامعاتنا من نوابغ علم الاجتماع ما يساعدنا على الفهم والإجابة عن سؤالنا.. كيف نستطيع استعادة قدراتنا، لا أحلم بأن نصل إلى «الرضا».. فقط استعادة تلك الخلايا التى فقدناها فى ظل لهاثنا خلف أخبار الحرب وتقلبات عالم الاقتصاد ومفكرى الدراسات الاستراتيجية، الذين تؤدى كل نظرياتهم إلى دائرة سوداء التفت حول أعناقنا فعصرتها عصرًا؟
نحن فى حال أفضل لا شك عندى فى ذلك.. وعلينا أن نلح أننا فى طريقنا أيضًا للأجمل، ربما نستطيع أن نعود إلى أعيادنا.. وكل عيد وأنتم مبتهجون وسعداء.