صحوة مجتمع
على الرغم من تلك الجرائم التى وقعت خلال الأيام القليلة الماضية إلا أننى وبحكم خبرتى الأمنية أجد أنها لا تمثل ظاهرة، بل هى مجرد جرائم وقعت كردود أفعال وانعكاسات لمعطيات أدت الى وقوعها، ولعل أبرزها واقعة قتل طالبة المنصورة وواقعة الإعلامية والقاضى .. ونحن هنا لن نتحدث عن الأسباب والدوافع التى أدت إلى ارتكاب الجريمتين، حيث إن التحقيقات ما زالت مستمرة والأحكام النهائية لم تصدر بعد.. ولكنه وحتى الآن فإن جميع المؤشرات تفيد بأنها جاءت نتيجة علاقات وأمور شخصية بين طرفى الجريمة كان من الممكن ألا تؤدى إلى مرحلة القتل بل والقتل المقترن بالعنف والوحشية التى وصلت إلى حد الذبح فى الطريق العام أو إلقاء مواد كاوية على وجه الضحية بعد قتلها، وهو ما يؤكد أن ثقافة العنف أصبحت هى السمة الغالبة فى التعامل مع الآخر حتى ولو كان هذا الآخر زميلا أو صديقا أو زوجة أو زوجا.. وهو الأمر الذى يتطلب وبحق صحوة حقيقية للمجتمع المصرى بكل طوائفه ومختلف أعماره قبل أن يصبح العنف هو اللغة الرسمية للتعامل بين البشر.
وهنا أجدنى أعود إلى ما جاء فى كلمة القاضى الجليل بهاء الدين المرى، رئيس محكمة جنايات المنصورة، فى الجريمة البشعة التى قتل فيها طالب زميلته فى الجامعة وبلدياته فى السكن.. حيث كانت كلمته تحمل إدانة للمجتمع الذى تخلى عن قيمة وثوابته أمام عصر تشوهت فيه كل الأشياء، وضاع فيه دور الأسرة فى رعاية أبنائها والتواصل الدائم معهم لحمايتهم من أمور كثيرة قد يتعرضون لها ولا يجدون وسيلة للتعامل مع تلك الضغوط إلا باستخدام العنف ضد الغير حتى ولو وصل الأمر الى القتل.. كانت كلمته تحمل أيضاً إدانة للإعلام الذى انصرف عن مهمته الأصيلة فى حماية المجتمع وراح يعرض المسلسلات والأفلام التى تروج لفكر العنف كوسيلة للانتقام أو استرداد الحقوق.. كانت كلمته ليست مجرد إدانة شخص أو إصدار حكم ولكنها تحمل رسالة أكبر وأشمل للمجتمع الذى سمح بأن تفرز فيه هذه الجرائم.
أشعر وأنا أتابع رسائل الإعلام بمختلف أنواعها بأنها تتسابق فى نشر تلك الجرائم واستضافة أهالى الجانى والمجنى عليه بل والجيران والأصدقاء وأصحاب المحلات التى تقع فى دائرة سكن كليهما.. وهنا نجد هؤلاء البسطاء يطلقون العنان لتصوراتهم وتحليلاتهم .. وكلما زاد الاهتمام بالقضايا زادت معه التخيلات واختلاق المواقف لدرجة أن البعض منهم خلق لنفسه دوراً لمنع الجريمة وهو أساساً لم يكن متوجداً حال وقوعها أو تدخل بعدما تمت.. أعلم أن هناك خبطات صحفية وإعلامية مطلوبة لإثبات كفاءة من يحققها، ولكن فى ذات الوقت يجب أن تكون هناك مراجعة على ما ينشره تحسباً من أن يؤدى ذلك إلى تفاقم الأمور، وهو ما نراه كثيراً فى أحداث الفتنة الطائفية.. أما مواقع التواصل الاجتماعى فحدث ولا حرج، فهى أساس الفتنة والفوضى والاختلاق والكذب والتجنى والفبركة.. وكثيراً ما تحدثنا عن خطورتها وتأثيرها على متابعيها، وللحق فإن الأجهزة المعنية تبذل جهوداً كبيرة للسيطرة عليها.. أما إذا جاءت من مواقع خارجية فهناك صعوبة كبيرة فى حجبها أو منعها أو السيطرة عليها، وهنا تكمن الخطورة.
ورغم كل ذلك فنحن نؤكد أن ما يحدث فى الشارع المصرى حالياً من جرائم وفوضى لا يمثل ظاهرة بأى حال من الأحوال، ومع ذلك فإنه يجب عدم الاستهانة بها أو التقليل من تأثيرها، ولعلنا ما زلنا نملك فرصة العمل فى نطاق الوقاية والمنع قبل أن تصبح ظاهرة حقيقية تشكل عبئاً ثقيلاً على المجتمع نحن جميعاً فى غنى عنه.
والآن دعونا ننظر إلى الإيجابيات التى نشهدها جميعاً على أرض الواقع ونتساءل: لماذا لا يهتم الإعلام بإبرازها رغم أهميتها ورغم أنها تمثل جانباً مشرقاً ومشرفاً إلا أنها لا تحظى بما تستحقه فى عرضها وتناولها؟.
ولعل الإعلام هنا له ما يبرره، حيث إنه من الطبيعى أن يكون الجميع ناجحل ومثاليا.. أما حالات الإجرام والعنف فهى خروج وشذوذ عن المألوف، ومن هنا فمن الطبيعى أن يتم تناولها بالتفصيل والإسهاب.
ومن هنا فإننى أرى ضرورة إعادة النظر فى أسلوب عرض النجاحات التى تتحقق وألا يتم عرضها بشكل روتينى وممل، خاصة إذا كان هذا الإنجاز قد تحقق بشكل فردى وغير مسبوق ويؤثر بشكل إيجابى على المجتمع، ومثال ذلك ما حققته العداءة المصرية بسنت حميدة واللاعب المصرى العالمى محمد صلاح.
وهنا أجد لزاماً أن أطرح التساؤلات التالية:
- لماذا نجعل للجرائم أفلاماً ومسلسلات ومن المجرمين والقتلة فيها هم الأبطال؟
- لماذا فقدنا القدوة الحسنة فى الأعمال الفنية بمختلف أنواعها؟.
لقد أصبح الأمر يتطلب وبحق صحوة للمجتمع ككل، فالأمن وحده لن يتمكن من ضبط إيقاع البشر، ولا الإعلام ولا المساجد والكنائس.. لقد أصبحت المسئولية تشاركية، حيث يعتبر البيت والأسرة هما اللبنة الأولى فى تلك المسئولية، ثم يأتى بعد ذلك دور الجهات السابق الإشارة إليها، وإذا فشلت تلك المنظومة فإن الأحكام الرادعة السريعة التى تحقق العدالة الناجزة تكون هى خط المواجهة الأخير لتلك الجرائم، وهو ما حدث فى جريمة المنصورة والقاضى والإعلامية.
هذه الأيام ونحن نحتفل بعيد الأضحى المبارك أناشد كل أسرة فى المجتمع أن تقوم بدورها فى رعاية أبنائها ومتابعتهم وتوجيههم، وكذلك الحال فى العلاقة بين الزوج والزوجة، حيث لا بد أن يصل التفاهم بينهما إلى ذلك الحد الذى يطمئن فيه كليهما على مسلكيات الآخر واهتماماته وعلاقاته.
قد يبدو الأمر صعبا والدعوة مثالية، ولكنها مطلوبة خلال تلك المرحلة التى تمر بها البلاد.. ولعل تلك الأيام المباركة تحمل إلينا البشرى فى أن يعود مجتمعنا إلى سابق عهده فى الحفاظ على القيم والمبادئ والثوابت التى تعلمناها فى ديننا ودنيانا.
وتحيا مصر..