ستار حديدى جديد!
خلال خطاب شهير، ألقاه سنة ١٩٤٦، فى مدينة فولتون الأمريكية، اتهم ونستون تشرشل "الاتحاد السوفيتى"، رحمه الله، بأنه بات يشكل الخطر الأكبر على العالم، وبأنه أسدل ستارًا حديديًا على شرق أوروبا. ومن وقتها، بدأ استخدام مصطلح "الستار الحديدى"، لوصف الحدود الفاصلة بين الكتلتين الشرقية والغربية، السوفيتية والأمريكية، أو المعسكرين المختلفين أيديولوجيًا، سياسيًا، اقتصاديًا، عسكريًا.
لم يخترع "تشرشل" المصطلح، بل استلفه، غالبًا، من رواية للبريطانى آرثر ماتشن، صدرت سنة ١٨٩٥، عنوانها "المنتحلون الثلاثة"، أو من كتاب "عبر روسيا البلشفية" لإثيل سنودن، الذى صدر سنة ١٩٢٠، أو من عنوان كتاب السويدى بير إميل بروسيويتز "وراء الستار الحديدى الروسى"، الصادر سنة ١٩٢٣، أو من رواية الأسكتلندى إيه جى ماكدونيل "إنجلترا.. إنجلترا"، التى صدرت سنة ١٩٣٣، أو من مقال نشره جوزيف جوبلز، وزير الدعاية الألمانى، فى مايو ١٩٤٣، وحذر فيه من قيام "ستار حديدى" بين الغرب والشرق لو خسرت بلاده الحرب. غير أن المصطلح ارتبط باسم رئيس الوزراء البريطانى الأسبق والأشهر.
المهم، هو أن هذا المصطلح، الذى أشعل "الحرب الباردة"، أعاد سيرجى لافروف، وزير الخارجية الروسى، استخدامه، أمس الأول الخميس، تعليقًا على قمة حلف شمال الأطلسى، الناتو، أو على "خارطة الطريق الاستراتيجية الجديدة"، التى تم تبنيها خلال القمة. وقال، فى مؤتمر صحفى عقده مع نظيره البيلاروسى فلاديمير ماكى، إن "ستارًا حديديًا فى طور القيام"، يقيمه الغربيون، متهمًا الاتحاد الأوروبى بأنه لا يبدى أى اهتمام بمصالح روسيا أو أوكرانيا، وبأن قراراته تمليها عليه الولايات المتحدة.
قمة حلف الناتو، التى استضافتها العاصمة الإسبانية مدريد، اختتمت أعمالها، الخميس، بالموافقة على خطة مساعدات جديدة لأوكرانيا تتضمن تسليمها "معدات عسكرية غير قاتلة"، وتعزيز دفاعاتها ضد الهجمات الإلكترونية. وقال بيانها الختامى إن "وحشية روسيا المروعة تسبب معاناة إنسانية هائلة وموجات من النزوح الجماعى"، وندّد بـ"الشراكة الاستراتيجية العميقة" بين روسيا والصين، و"محاولاتهما المتبادلة لزعزعة استقرار النظام العالمى". كما أبدت دول الحلف قلقها من "النفوذ الروسى والصينى المتزايد فى جناحه الجنوبى"، وقررت التصدى لهذا "التحدى" عبر تقديم مزيد من المساعدات لشركاء الحلف فى تلك المنطقة.
الرئيس الروسى فلاديمير بوتين ندّد، أيضًا، بـ"الطموحات الإمبريالية" للحلف، وقال إن دعوة أوكرانيا إلى مواصلة القتال ورفض المفاوضات لا تؤكد فقط أن مصلحة الشعب الأوكرانى ليست هدف الغرب والحلف، بل تؤكد أيضًا أنها وسيلة للدفاع عن مصالحهم الخاصة، موضحًا أن الحلف و"بالدرجة الأولى الولايات المتّحدة، كانت بحاجة منذ فترة طويلة إلى عدو خارجى يمكن أن توحّد حلفاءها ضده". وكما جدّد استخدام وزير الخارجية الروسى مصطلح "الستار الحديدى"، الحديث عن "تشرشل"، استعاد بوتين سيرة مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، ليقصف جبهة بوريس جونسون، رئيس الوزراء البريطانى الحالى!
كان رئيس الوزراء البريطانى قد وصف قرار الرئيس الروسى بشن "عملية عسكرية خاصة" ضد أوكرانيا بأنه "مثال نموذجى للذكورة السامة"، وقال فى تصريحات، نقلتها شبكة التليفزيون الألمانية "زى دى إف"، إن "بوتين" لو كان امرأة لما أقدم على ذلك. وعليه، ردّ الأخير بأن رئيسة وزراء بريطانيا السابقة قررت شن عملية عسكرية للسيطرة على جزر فوكلاند. وانتقد الرئيس الروسى "القرار الذى اتخذته امرأة"، سنة ١٩٨٢، للرد على محاولة الأرجنتين استعادة سيطرتها على الجزر، التى تحتلها بريطانيا فى جنوب المحيط الأطلسى، وسأل ساخرًا: "أين جزر فوكلاند وأين بريطانيا؟"، فى إشارة إلى بُعد المسافة بينهما، ثم أجاب بأن قرار "تاتشر" كان مدفوعًا فقط بطموحات بريطانيا الإمبريالية أو التوسعية.
.. وتبقى الإشارة إلى أن قمة حلف شمال الأطلسى أغضبت الصين أيضًا، ببيانها الختامى، أو بـ"خارطة الطريق الاستراتيجية الجديدة" التى تبنتها، ما دفع جاو لى جيان، المتحدث باسم الخارجية الصينية، إلى وصف ما تضمنه البيان، أو الخارطة، بشأن بلاده بأنه "لا يمت للواقع بصلة ويعرض الوقائع بشكل معاكس، ويمعن فى تشويه سياسة الصين الخارجية". وعليه، بات فى حكم المؤكد أن التنين الصينى سيكون ضمن الكتلة الشرقية الجديدة، التى سيفصلها الستار الحديدى الجديد، حال قيامه، عن الكتلة الغربية الجديدة.