احتفالية العندليب ٦
طبيب عبدالحليم حافظ: أُصيب بـ«فيروس بى» حزنًا على عبدالناصر!
عبدالحليم حافظ ليس فقط واحدًا من أهم المطربين فى تاريخ الوطن العربى، وهو ليس المطرب الذى غنى للزعيم والثورة والعروبة، بل هو الإنسان الذى مات أبواه وتربى فى ملجأ للأيتام بعد أن شعرت زوجة خاله بأنه «نحس»، والفنان الذى عشق وطنه بصدق فغنى له فى كل مكان، ودعّم الثورة وزعيمها بكل إخلاص حتى كان ذلك من أسباب موته.
هو المحب العاشق الذى كادت قصة حبه مع سعاد حسنى أن تكتمل، وهو الشاهد على جزء كبير من أهم الأحداث فى الوطن العربى، سواء على الساحة الفنية أو السياسية، وليس فى مصر فقط.
فكيف أصبح عبدالحليم على شبانة، الطفل اليتيم، عندليب الغناء فى الوطن العربى وواحدًا من أهم المطربين فى التاريخ؟
فى كتاب «حليم وأنا» للدكتور هشام عيسى، الطبيب الخاص بعبدالحليم حافظ، الصادر عن دار «الشروق» للنشر والتوزيع، يروى الطبيب الكثير عن حياة «حُلم»، بحكم مرافقته له فى أى مكان يذهب إليه نظرًا لظروفه الصحية الحرجة، لعدد طويل من السنوات، استطاع فيها أن يشاهد «العندليب» وهو سعيد يتذوق نجاحاته الفنية، أو منتشيًا بحب جمهوره على المسرح أو على مقهى أو فى شارع، كما شاهده وهو يعانى أقسى لحظات الألم، ألم المرض وآلام أخرى.
لذا يروى لنا د. «هشام»، فى كتابه أو شهادته تلك، ليس فقط حياة الفنان والإنسان عبدالحليم حافظ، بل يروى جزءًا مهمًا من تاريخ الوطن العربى.
فى ملجأ عبداللطيف بك حسنين، شاء القدر أن يتربى فى هذا المكان اثنان سيخرجان منه ليكونا من أفضل الفنانين، كل فى مجاله، الأول هو عبدالحليم حافظ، والثانى هو الشاعر أحمد فؤاد نجم، الذى يعد من أهم شعراء العامية فى تاريخ الوطن العربى.
ماتت أم «حليم» إثر مولده، وبعد ٥ أشهر مات أبوه، وأخذه خاله ليعيش معه، لكن زوجة خاله رفضت ذلك ونصحت زوجها بأن يذهب بالطفل اليتيم إلى الملجأ بحجة تلقى التعليم بداخله، لكن الحقيقة هى أنها كانت تراه سبب «نحس» أمه وأسرته، وعلى الرغم من هذا الموقف الذى ظل مؤثرًا فى شخصية «العندليب»، تكفل بعلاج خاله حين أصابه المرض.
كان «حليم» يدرك جيدًا حجم موهبته، وبعد إخفاق فى عدة محاولات لنيل فرصة لكى يراه الناس، سواء فى الأماكن العامة المتاح فيها الغناء أم فى الإذاعة، تمسك «العندليب» بحلمه فى أن يكون فنانًا ومطربًا كبيرًا، وجعله ذلك يتحمل كل شىء، حتى كانت أغنية «على قد الشوق» من ألحان كمال الطويل هى انطلاقته الكبرى، غناها فى الإذاعة، ثم قدمها فى فيلم «أيامنا الحلوة» فلاقت نجاحًا منقطع النظير.
ويشاء القدر أن يكون «عبدالحليم» شاهدًا ومؤرخًا بصوته لفترة من أهم الفترات التى مرت فى تاريخ مصر والوطن العربى، الفترة التى بدأت بثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، تلك الثورة التى آمن «عبدالحليم» بها، وآمن بزعيمها، وعبّر عنها بكل صدق وإخلاص ومحبة صافية، وليس بنفاق أو رياء، فـ«لم يكن حليم ورفاقه مجرد أدوات للدعاية يرددون خطاب الثورة، بل كان إبداعهم نتاج تفاعل عميق مع كل خطواتها».
والدليل على هذا الصدق هو الحزن الشديد الذى شعر به «عبدالحليم» بعد وفاة جمال عبدالناصر فى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠، فحينما سمع خبر وفاة الزعيم الذى عشقه، تلبسه شعور جامح بالغضب، جعله يضرب دون أن يدرى المرآة بيديه وبرأسه.
وقتها شعر «حليم» بأن هناك خطرًا يحدق بوطنه، الذى كان العدو يحتل جزءًا منه. نزف «حليم» بسبب هذه النوبة من الغضب بعد سماعه موت الزعيم وضربه المرآة بيده، لينقل إلى المستشفى، وهنا تحدث الكارثة، التى ستكون سببًا فى رحيله بعد ذلك، حيث إنه فى المستشفى تم نقل زجاجة من الدم له، وكانت زجاجة الدم تحتوى على فيروس «بى»، وهكذا أصيب «حليم» بالالتهاب الكبدى.
آمن «حليم» بالثورة وزعيمها، لا لشىء إلا للإنجازات التى كان يراها بعينه، خاصة الإنجازات الفنية، التى تمثلت فى إنشاء أوركسترا القاهرة السيمفونى، وإقامة مدينة الفنون التى تضم «الكونسرفتوار»، ومعهد الباليه، ومعهد السينما، والمعهد العالى للفنون المسرحية، كما أن ما قدمته الثورة فى المجال الاجتماعى رفع من مكانته وحقوقه كمواطن متميز الموهبة، فقبل الثورة كانت هناك نظرة دونية لمن يعمل فى الفن.
لذلك كان طبيعيًا أن يكون تفاعله مع التغيير طبيعيًا، بعد أن لمس التغيير كل نواحى حياته الاجتماعية والفنية والاقتصادية، وكان من الطبيعى أيضًا أن يحب «عبدالناصر»، وكان حبه مزيدًا من الامتنان لما أنجزه، والإعجاب الشخصى به والعرفان بالجميل.
حتى «نكسة يونيو» لم تغير من موقف «حليم» من الثورة، بل ظل مؤمنًا بالزعيم عبدالناصر، ويرى فيه أنه قبطان هذه البلاد القادر على حمايتها والوصول بها إلى شواطئ الأمان، فبعد أن انكشفت الأمور وتبين جسامة ما وقع فى ٥ يونيو ١٩٦٧، غنى «حليم» بحزن عميق أغنية «عدى النهار» لعبدالرحمن الأبنودى.
وبعد ذلك أقسم بأن يبدأ جميع حفلاته الغنائية بأغنية «أحلف بسماها وبترابها»، وأن يستمر فى ذلك حتى تتحرر سيناء، وكان يرى أن مصر لم تهزم فى ٦٧، ولم يحتجب النور إلا حينما أحاطت بها أبخرة الجهل والحقد والمؤامرات من الداخل.
ربما يمكننا أن نتوقف هنا لننظر إلى هذه الحالة من الوطنية الجارفة، التى لم يكن «حليم» هو المؤمن الوحيد بها، بل الجميع، سواء كانوا فنانين أم مواطنين، كانوا فى صف واحد، يحاربون عدوًا واحدًا، وقبل ذلك يحاربون الجهل والفساد، ويمكن أن نقارن ما فعله «حليم» بما فعلته أم كلثوم حين تبرعت بأموال أحد أكبر حفلاتها لصالح المجهود الحربى.
وبعد موت «عبدالناصر» أراد «حليم» أن يغنى كلمات الرثاء التى ألقاها الشاعر نزار قبانى، تلك الكلمات التى تضع عبدالناصر فى مصاف الأنبياء والمرسلين، لكن حين عرض الفكرة على أسرة الزعيم الراحل، رفضت بشدة، لأنها ترى أن كلمات الأغنية قد تتعارض مع أفكار الرئيس، الذى كان لا يؤمن بأنه من الأنبياء بل مجرد زعيم لوطن.
أما عن «عبدالحليم» المحب والعاشق، فيقول الدكتور هشام، داخل كتابه، إنه لم يحب ويعشق فى حياته أنثى كما أحب وعشق سعاد حسنى، وكذلك أحبته «سعاد»، لكنها رفضته لأنها كانت ترى أن زواجهما سيعرقل مسيرتها الفنية التى كانت آخذة فى الصعود، فلو تزوجت «حليم» سيقتصر دورها على الاهتمام بحياة الفنان الكبير فقط، ولن تستطيع هى أن تتقدم فى فنها وموهبتها التى جعلتها تقدم أكثر من ٨٠ فيلمًا فى وقت قصير.
وفى موضع آخر، يُكمِل د. «هشام» شهادته بخصوص تلك العلاقة قائلًا:
كان من المفترض أن يقدم «حليم» مع «سعاد» فيلمًا بعنوان «وتمضى الأيام»، وهو فيلم مأخوذ من رواية «غادة الكاميليا»، وتم ترشيح المخرج الكبير يوسف شاهين لإخراج هذا الفيلم، والذى أجّل النظر إلى الفيلم إلى ما بعد الانتهاء من فيلمه الذى كان يصنعه وقتها، فيلم «العصفور».
وبعد أن نظر «شاهين» فى السيناريو المكتوب أراد أن يعدل بعض النقاط قبل إخراج الفيلم، ثم أضاف شخصيتين، إحداهما شاعر، إشارة إلى أحمد فؤاد نجم، والأخرى مطرب كفيف، وهو الشيخ إمام، لكن حين رأى «حليم» هذه النسخة المعدلة من السيناريو غضب ومزقها قائلًا: «المجنون جايب لى اتنين شيوعيين يعلمونى الوطنية».
وفى تلك الفترة كانت العلاقة بين «حليم» و«نجم» متوترة، رغم أنهما أبناء ملجأ واحد. وهكذا اجتمع عناد «حليم» واعتزاز «شاهين» بنفسه، بدلًا من رومانسية الأول وعبقرية الثانى، ففشل المشروع.
أما عن الأحداث التى شهدها «حليم» على مستوى الوطن العربى فهى أحداث مهمة، وتحديدًا فى دولة المغرب، التى كان يتردد عليها كثيرًا، وكانت علاقته بالملك الحسن الثانى علاقة صداقة عظيمة وود واحترام متبادلين، وقد شاء القدر أن يشاهد «حليم» جزءًا من الحركات والنزاع السياسى فى المغرب الذى كاد أن يفقد فيه حياته.
ففى يوم ١٠ يوليو قامت محاولة انقلاب ضد الملك، وتعرض الملك لمحاولة اغتيال لكنه نجا، كما تم ذبح وقتل عدد كبير من حاشية الملك، وكان «حليم» وقتها فى المغرب، يسجل أغنية للملك فى نفس الساعة التى قام فيها الانقلاب، وكادت أن تصل وحشية هذا الانقلاب إليه فيفقد حياته.
كما شهد «حليم» محاولات أخرى للسيطرة على الحكم فى المغرب من جانب آخرين، وتقرب من رجال السياسة والمنصب هناك، ويروى الكتاب هذه المغامرات المدهشة التى تعرفنا كثيرًا على تاريخ بلد عربى كبير مثل المغرب.
ويحكى الكتاب العلاقة بين «حليم» وغيره من الفنانين، فنستطيع أن نرى علاقته مع الموسيقار العظيم محمد عبدالوهاب، وصداقته مع فريد الأطرش، وكذلك مع أم كلثوم التى كانت العلاقة بينهما متوترة وحساسة قائمة على التنافس، وأيضًا عن علاقة «حليم» مع الزعيم عادل إمام. وعن طريق تلك الحكايات يستطيع القارئ لا أن يقترب فقط من شخصية «حليم»، بل من معرفة أسرار جديدة فى حياة كل هؤلاء النجوم الذين تعاملوا مع «حليم» وتعامل معهم.
وفى عام ١٩٧٧، وتحديدًا فى يوم ٣٠ مارس، توفى عبدالحليم حافظ، هذا الطفل اليتيم والإنسان العظيم الذى آمن بموهبته وتمسك بأحلامه، متحديًا الأمراض المحتلة لجسده، مثل البلهارسيا، والأمراض الأخرى التى أضيفت إليه بعد أن نقل إلى المستشفى إثر نوبة الغضب التى شعر بها بعد موت الزعيم الذى عاش معه أحلامه، وكان مؤمنًا به ومحبًا صادقًا له. وجزء كبير من هذا الحب، هو حبه لوطنه، الذى حاول التعبير عنه فى أغانيه وفنه، والمساعدة فى نهضته وتقدمه ورفعته.ش