تساؤلات مشروعة لفضيلة د. مختار جمعة وزير الأوقاف!
(1)
استمعتُ بالأمس لخطبة الجمعة التى ألقاها فضيلة وزير الأوقاف د. مختار جمعة، وأثلج صدرى أننى رأيتُ أخيرا قامة دينية كبرى تتحدث فى خطبة جمعة عن شخصية مصر وحضارة مصر وتربط بينها وبين تعاليم الإسلام السمحة والرحيمة.
من خلال متابعتى الخطاب الدينى فى مصر فى أربعة عقود، يمكننى القول إن رهان القيادة السياسية ذات الرؤية الوطنية على شخص وزير الأوقاف الحالى فى القيام بأهم وأخطر دور يمكن أن تقوم به وزارة الأوقاف فى تاريخها هو رهانٌ رابحٌ وفى محله تماما.
وقد بدأت مصر تجنى ثمار جهد السنوات القليلة الماضية بالفعل فى إعداد دعاة علماء شباب حصلوا بالفعل على دورات تحيط بالمسائل الوطنية بجانب الرؤية الدينية الصحيحة والتى تتفق وشخصية مصر التاريخية، ودورات لإعداد القادة، وتولى بعضهم بالفعل مراكز قيادية بالوزارة وأبلوا بلاء حسنا.
ومن هذا الموضع- موضع المساند بقوة- أرى أنه يجب علينا كمواطنين مهمومين بهذا الوطن أن نقدم دائما ما نستطيعه لمساندة جهود الوزارة، ولفت نظر قياداتها لبعض التفاصيل التى كان لها فى العقود السابقة أبلغ وأسوأ الأثر فيما صار إليه المصريون من اعتناق أفكار غريبة عن هذه التربة المصرية. وهذا هو ما أقوم به فى هذا المقال مقدما لفضيلته هذه التساؤلات التى أتمنى أن يثلج فضيلته صدورنا بوجود إجابات واقعية على الأرض..
(2)
وأبدأ بهذا القرار الذى صدر فى مايو الماضى بخصوص عودة المساجد إلى كامل نشاطها، بما يعنى عودة الدروس اليومية بالمساجد فى عموم مصر بريفها وحضرها وأزقتها..
وهنا أتحدث عن البند الثانى تحديدا الذى يختص بالسواد الأعظم من مساجد مصر، دروس العصر ثلاثة أيام أسبوعيا، ودروس العشاء يوميا، بجانب استئناف دروس الواعظات والمحفظات يوميا عقب صلاة العصر.
ولأننى طوال عقود كنت أتردد على كثيرٍ من المساجد المصرية لحضور بعض الدروس بصفة منتظمة أو عارضة، فإننى أعلم تماما خطورة هذا النشاط على العقل الجمعى المصرى، خاصة الأطفال الذين يواظبون على (دروس تحفيظ القرآن). والتى ما تلبث أن تتحول لجلسات للسيطرة على عقول الأطفال، لدرجة كانت تصل سابقا مثلا إلى توزيع بعض الأئمة منشورات ورقية على الأطفال ترهبهم من المشاركة فى بعض الاحتفالات المصرية الاجتماعية، مثل شم النسيم وعيد الأم وغيرهما.. والسيطرة على عقل طفل تعنى التحكم فى رجل المستقبل.
لذلك يحق لنا أن نتساءل: ما هى الآليات التى سوف تطبقها الوزراة لضمان ضبط ما سوف يقال فى تلك الدروس وفى جلسات الأطفال لتحفيظ القرآن الكريم، مقارنة بخطبة صلاة الجمعة وهى مرة واحدة أسبوعيا؟، حيث بذلت الوزارة جهدا حثيثا للنجاح فى ضبط موضوع الخطبة بشكل كبير، فماذا سوف تفعل مع تلك الدروس اليومية؟ ومن سوف يحدد موضوعات الدروس؟
وهل خضع جميع أئمة مصر لإعادة التأهيل وتم تصويب ما كان راسخا فى عقول بعضهم؟ وكم هى النسبة المؤية من الأئمة الذين حصلوا على هذا التأهيل مقارنة بالعدد الإجمالى للأئمة الذين سوف يقومون بإلقاء تلك الدروس فى عموم مصر؟
(3)
ما دفعنى أيضا للكتابة اليوم هو هذا الإعلان الذى وجدته بالأمس على إحدى الصفحات الإعلانية بمدينتى الجنوبية، وهو أحد توابع قرار الوزارة..
تمتلئ مصر بتلك الجمعيات، ولقد قامت المئات منها فى العقود السابقة عبر هذه الكتاتيب بإعداد أجيالٍ من المصريين شديدى التعصب والانسلاخ من الشخصية المصرية.
فبخلاف جلسات تحفيظ القرآن الكريم، كان يتم السيطرة على عقول الصغار من خلال ما يسمى بدروس «الأخلاق- المعاملات- العبادات- السيرة النبوية»، وتحت أى عنوان من تلك العناوين يجلس الأطفال فى غرف مغلقة من الجمعية مع رجال وسيدات يلقون فى آذانهم بما يريدون ويصيغون عقولهم كيفما يشاءون، فكبر الأطفال وقد تحولوا إلى كتلٍ من الفكر السلفى المتشدد المتعارض مع الشخصية المصرية.
فهل يوجد أى آلية قانونية وواقعية تستطيع بها وزارة الأواقاف أن تقوم بأى دورٍ مراقب ومصوب ومعاقب أحيانا لأى خروج عن هوية الدولة المصرية فى دروس وأنشطة تلك الجمعيات؟
(4)
وهل كان قرار وزارة الأوقاف مبكرا بعض الشىء وكنا فى حاجة إلى مزيد من الوقت لاستكمال تأهيل جميع وعاظ وأئمة مصر ليكونوا بنفس درجة الوعى التى بلغها عدد غير قليل منهم، والذين نراهم على شاشات القنوات المصرية وعلى منابر بعض المساجد الكبرى، ونتمنى أن يصل الجميع إلى تلك الدرجة من الوعى؟
مصر دولة كبيرة مكانا ومكانة وشعبا.. بها آلاف المساجد فى جميع الأزقة والشوارع والقرى والنجوع التى ربما لا تصل إليها آليات مراقبة المساجد والجمعيات بسهولة وباستمرار.. وفتح الباب هكذا ربما يعود بنا إلى تكرار مأساة مصر مرة أخرى.
إننى كمتابعٍ لما حدث فى مصر فى العقود الأربعة الأخيرة- فى ملف التطرف الدينى- أؤكد أن فتح الأبواب على مصراعيها لتلك الأنشطة دون وجود آليات مراقبة ومتابعة حقيقية فى كل مسجد فى كل نجع وقرية مصرية، وفى كل مبنى يخص أى جمعية دينية تحت أى مسمى، لا يعنى شيئا سوى أننا قررنا التقهقر للخلف.
جميع الدراسات تقول إن العدد الأكبر من المتطرفين، ثم الإرهابيين فى مرحلة لاحقة، خرجوا من مناطق جغرافية بيئية بعينها، كانت تلك المناطق بعيدة تماما عن تأثير المؤسسات الدينية المرتجى اعتدالها وقيامها بدورٍ وطنى.. ونحن الآن بفتح هذا الباب دون وجود آليات عصرية لتصويب ما حدث إنما نعيد منح عقول وأرواح آلاف من أطفالنا كل عام لنفس الوجوه التى أفسدت أجيالا كاملة أو لتلاميذهم الجدد الذين يحملون نفس الأفكار.. كمنوا حتى هدأت ثورة غضبة المصريين على ما فعلوه، ثم نشطوا مرة أخرى بنعومة مستفيدين من أى قرار يصدر هنا أو هناك لإعادة نفس الكرة.
إننى أوجه نداءً خالصا لوجه الله ولوجه هذا الوطن للعالم الجليل الوطنى د. مختار جمعة وتلك الكوكبة من شباب العلماء المستنيرين من قيادة الوزارة ولكل مسئول فى مصر عن هذا الملف؛ أن تنتبهوا قبل أن يصبح تحرككم متأخرا جدا.. أوجدوا آليات حقيقية على الأرض للمتابعة الفاعلة التى تصل إلى كل مسجد وكل مبنى تابع لأى جميعة فى كل قرية ونجع فى مصر، أو أوقفوا تلك الأنشطة حتى نكون مستعدين بالفعل لها.. لأنكم إن فعلتم ذلك الآن أنقذتم هذا الوطن من صفحات سوداء مستقبلية.. لقد دفعت مصر أثمانا باهظة ولا نريد لها أن تدفعها مرة أخرى!