أزمة مارس 1954
نقترب من الاحتفال بذكرى مرور سبعين عامًا على ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، ومن الأحداث المهمة فى تاريخ الثورة "أزمة مارس ٥٤"، هذا الحدث الذى يراه البعض لحظة فارقة ليس فقط فى تاريخ الثورة، وإنما فى تاريخ مصر المعاصر. ومن الدراسات المهمة حول هذه الأزمة، الكتاب المهم الذى وضعه "عبدالعظيم رمضان" تحت عنوان مثير: "عبدالناصر وأزمة مارس ١٩٥٤"، وصورة غلاف أكثر إثارة لعبدالناصر الشاب الأسمر بزيِّه العسكرى، وهو ينظر بعينيه الثاقبتين الحادتين كأنه ينظر لمستقبل الأيام.
من بداية الكتاب يُحدد عبدالعظيم رمضان موقفه مما اصطلح على تسميته بأزمة مارس، يرى رمضان أنه: "فى أزمة مارس غابت شمس الديمقراطية الليبرالية فى مصر، بعد أن تهيأت لها الفرصة لأول مرة لتشع إشعاعها الصحيح". هكذا يحدد رمضان منذ البداية موقفه من هذه اللحظة التاريخية ليرى أن الخيار كان هو الديكتاتورية وحكم الفرد.
وفى حقيقة الأمر تعرض عبدالعظيم رمضان نفسه إلى انتقاد واسع من جانب الناصريين وبعض تيارات اليسار المصرى، الذين رأوا فيه متحوِّلًا من اليسار إلى مناصرة الرئيس السادات، لا سيما أن الكتاب السابق الإشارة إليه صدر فى عام ١٩٧٦، فى عصر السادات، وفى إطار حملة مراجعة حادة للفترة الناصرية، لعل أهم مظاهرها كتاب توفيق الحكيم "عودة الوعى"، والفيلم الشهير "الكرنك" قصة نجيب محفوظ، وإخراج سينمائى لعلى بدرخان.
ولا يقتصر نقد رمضان لأزمة مارس على مسألة اختيار حكم الفرد فحسب، وإنما يشير أيضًا إلى تداعيات أزمة مارس على مسألة وحدة وادى النيل والعلاقات المصرية السودانية: "ترتب على أزمة مارس نتائج فادحة بالنسبة للعلاقة بين مصر والسودان. حيث آثر الشعب السودانى بعدها النجاة بنفسه من محيط السياسة المصرية المضطرب. وانتقلت قيادته بين عشية وضحاها من معسكر الاتحاد إلى معسكر الانفصال. وكان لاختفاء شخصية اللواء محمد نجيب الذى وُلِد ونشأ فى السودان، وتوثقت بينه وبين السودانيين أواصر القربى والنسب، تأثير كبير فى هذا الصدد".
ومن أجل الموضوعية التاريخية علينا أن نقدم وجهات النظر الأخرى حول مسألة أزمة مارس ٥٤ وتأثيرها على التاريخ المصرى المعاصر. فهناك من يرى أن ثورة يوليو اختارت منذ البداية طريق حكم الفرد، والتعظيم من شأن "الزعيم". وقد ظهر ذلك جليًا فى صناعة صورة "الأب" للواء محمد نجيب، وإلغاء الملكية، وتوليه رئاسة الجمهورية دون انتخابات، أو حتى استفتاء شعبى، هذا فضلًا عن قرار حل الأحزاب السياسية، فهل كان من المنتظر أن تأتى الديمقراطية على يد نجيب، إذا انتصر هو وجناحه على جناح عبدالناصر؟ وأصحاب هذا الرأى يهونون من أثر أزمة مارس، وينظرون إليها على أنها مجرد صراع بين أجنحة مجلس قيادة الثورة، وأن الثورة تأكل أول ما تأكل أبناءها.
على الجانب الآخر هناك من يتهم نجيب وجناحه بالتحالف مع جماعة الإخوان المسلمين، ومع قيادات سياسية من "العهد البائد"، وأن انتصار نجيب وجناحه على جناح عبدالناصر، كان سيعنى فى نهاية الأمر نهاية الثورة والعودة من جديد إلى نقطة الصفر، من هنا كان قرار عبدالناصر إبعاد نجيب وجناحه، وعدم عودة الأحزاب، والاتجاه إلى الحكم المباشر من أجل الحفاظ على الثورة وتطبيق مبادئها.
هكذا ستبقى مسألة أزمة مارس من أكثر أحداث ثورة يوليو إثارة للجدل، ومن الصعب تكوين صورة موضوعية عنها، نظرًا للانحيازات السياسية الحادة التى تصاحبنا طيلة السبعين سنة الماضية، لكنه من المؤكد أن أزمة مارس ٥٤ هى من اللحظات الفارقة فى تاريخنا المعاصر.