كيف تكون فنانًا؟ الإجابة سعاد حسنى
إذا ذهبنا إلى قوائم أفضل مئة فيلم عربي ومصري في القرن الماضي، لوجدنا أن كثيرًا من الأفلام في القائمة، هي من بطولة سعاد حسني، التي لا ينافسها سوى الفنانة فاتن حمامة من حيث عدد الأفلام التي دخلت إلى القائمة.
وإذا تأملنا مسيرة سعاد الفنية، وجدنا أنها مقارنة بممثلين آخرين لم تعمل لعدد طويل من السنوات، فهي بدأت مسيرتها في ستينيات القرن الماضي وأنهتها في بدايات التسعينيات أو فلنقل أواخر الثمانينيات، وفي تلك السنوات القليلة قدمت ما يقرب من المئة عمل فني، فكيف أصبحت سعاد أو سندريلا الشاشة العربية واحدة من أهم الوجوه والمواهب التي جاءت ليس فقط في تاريخ السينما المصرية والعربية بل في تاريخ السينما الإنسانية بشكل عام، وسنوضح ذلك ونحن نتأمل هذه المسيرة التي يمكن أن تصبح دليلًا لكثير من الموهوبين والفنانين لمعرفة كيف تتمرد على القيود التي يفرضها عليك الفن نفسه، وكيف تستطيع تطوير الموهبة؟.
مع ظهور سعاد في الستينيات كوجه جديد جذاب في السينما تم حصرها في دور الفتاة الشابة المراهقة المحبة الخجولة التي تنتظر حبيبها بشغف، وتلك الأدوار النمطية الكلاسيكية الهادئة التي لا تستطيع بها تقديم موهبتها بشكل كامل، تسير سعاد مع هذه الأدوار المفروضة عليها من قبل المخرجين في أفلام مثل "البنات والصيف" "إشاعة حب" وغيرهما من الأفلام الشبيهة حتى تأخذ التجربة خطوة صغيرة، ولكنها كبيرة في نفس الوقت حيث فيلم "الطريق" المأخوذ عن رواية نجيب محفوظ وإخراج حسام الدين مصطفى، وبطولة شادية ورشدي أباظة، هنا بالرغم من وجود سعاد في دور نمطي مثل الأدوار التي اعتادت عليها، إلا أننا نستطيع عن طريق نظرات العين وتعبيرات الوجه فقط قراءة شيء ما أضيف إلى موهبة سعاد، فجعلها أكثر جاذبية، فهي هنا ليست الحبيبة النمطية التي تنتظر حبيبها بشغف، بل هي رمز الخير، الذي يواجه رمز الشر، ويحاول إبراز جوانب الخير في شخصية البطل، هذا الإنسان الحائر بين الطريقين.
ويعتبر الانفجار أو ما يمكن أن نطلق عليه بداية فك القيود الفنية، هو ما فعلته سعاد بمساعدة المخرج الكبير صلاح أبوسيف في فيلم "القاهرة 30"، فهنا أنت أمام فيلم من أهم الأفلام في صناعة السينما الإنسانية، هنا تأخذ سعاد خطوات إضافية في طريقها ومشوارها الفني، خطوات هي تعرف قيمتها، لأنها تعرف بالضرورة حجم موهبتها، والعمل مع مخرج بحجم صلاح أبوسيف الذي له فضل في ظهور وجوه وأسماء جديدة على ساحة صناعة السينما العربية، ويكفي أن نقول إنه من علم نجيب محفوظ كتابة السيناريو.
ليمتد هذا الانفجار الفني في العام التالي من إنتاج فيلم القاهرة 30، والتعاون مع نفس المخرج لصنع فيلم آخر من أهم أفلام السينما، وهو فيلم "الزوجة الثانية" التي استطاعت فيه سعاد ببراعة لا نظير لها أن تقدم موهبتها في ثوب جديد ومختلف، هي بنت المدينة، التي تلعب دور فلاحة مصرية، ويجب أن تقدم من خلال تلك الشخصية معاناة القهر والظلم الذي يتعرض له الضعفاء والفقراء في الدول النامية، فلتشاهد هذا الفيلم وتتأمل نظرات سعاد فقط، في لحظات القهر والضعف، لتدرك كم هي فنانة عظيمة لم ولن يأتي الزمن بمثلها، فهي وحدها لا تعبر عن هموم الشخصية، بل عن هموم الوطن.
بالتأكيد موهبة مثل موهبة سعاد حسني كان لا يجب أن تغفل عن عين واحد من أهم المخرجين الذين اكتشفوا وقدموا كمًا كبيرًا من المواهب، وواحد من المخرجين العظام في تاريخ السينما وهو يوسف شاهين، ليتعاون شاهين مع سعاد في واحد من أهم أفلام السينما وهو فيلم "الاختيار" هذا الفيلم الذي يعتبر الجزء الأول من الثلاثة أفلام التي صنعها شاهين للتعبير عن النكسة، فسعاد هنا هي إشارة لمصر، الضائعة بين شخصيتين كل شخصية هي نقيض الأخرى، شخصية تريد تحقيق العدالة والحرية، وشخصية تريد الظلم والقهر، سبب رئيسي أدى إلى النكسة، يبدو ذلك في عيني سعاد التي تترقرق بالدموع في كثير من مشاهد الفيلم، فهي مثلها مثل زعيمها أو بطل الفيلم مضطربة ومشوشة تريد أن تبكي ولكنها متعاطفة معه، ولذلك تبقى الدموع حبيسة طوال الفيلم.
فيلم "الاختيار" إنتاج 1970 لا يعد فقط بداية مرحلة جديدة في مشوار سعاد الفني، لأنها تركت فترة الستينيات التي لم تصنع فيها تقريبًا سوى فيلمين يمكن التوقف أمامهما، لتنتقل بعد هذا الفيلم إلى فترة السبعينيات التي استطاعت فيها حفر اسمها بكلمات من ذهب وتخليده في تاريخنا الفني.
ففي حقبة السبعينيات استطاعت سعاد أن تتعاون مع مخرجين آخرين وجدد، تعاونت مع سعيد مرزوق لتقدم فيلمًا من أهم الأفلام وهو "زوجتي والكلب" ثم "خلي بالك من زوزو" مع المخرج حسن الإمام، و"الكرنك" مع علي بدرخان، و"على من نطلق الرصاص" لكمال الشيخ.
مرحلة السبعينيات كانت كفيلة بخروج موهبة سعاد بشكل كامل، وتطويرها إلى حد مذهل، تجعلها مع مخرج يعتبر جديدًا في تلك الفترة وهو محمد خان تقدم فيلمًا بأداء مختلف، استطاعت فيه أن تحفر على وجدان وذاكرة من يشاهد الفيلم بعض المشاهد والنظرات والكلمات وحتى نبرة الصوت التي لا تنسى، بالتأكيد أتحدث عن فيلم "موعد على العشاء".
فهذا الفيلم من وجهة نظري هو أهم أفلام سعاد في حقبة الثمانينيات ولا ينافسه سوى فيلم "أهل القمة" إخراج علي بدرخان، الفيلم الذي يعبر عن تحول المجتمع المصري مع سياسة الانفتاح التي اتبعها الرئيس السادات، وما أدت إليه هذه السياسة من فساد كارثي.
واختتمت وودعت سعاد السينما بفيلم "الراعي والنساء"، هذا الفيلم الذي يتم الآن نشر مشاهد منه لوجه سعاد حسني الذي وصل في هذه المرحلة إلى ما يمكن أن نطلق عليه الكمال الفني، فهي هنا تستطيع التحكم في ملامح وجهها للدرجة التي تجعل نصف وجهها الأيمن يبكي والنصف الأيسر يضحك.
ونحن نستعيد كل تلك المسيرة الفنية الآن، في ذكرى رحيل الفنانة الكبيرة، دون أن ننظر إلى كل ما دار وأثير عن موتها ورحيلها من أقاويل وعلامات استفهام وهل هي حادثة انتحار أو قتل؟، ففي كل الأحوال الحديث في رحيلها هو أمر محزن إنسانيًا، ولكن الأكيد أن سعاد باقية كفنانة وإنسانة بفنها. لطالما كانت قادرة على توصيل رؤية أو الإجابة على سؤال إنساني عن طريق فنها فقط، ولطالما استطاعت حفر مشاعر إنسانية في وجدان البعض حتى من لم يعاصرها، من الأجيال الجديدة والمختلفة، فهي بكل تأكيد باقية.
فسعاد حسني أو السندريلا، هي فنانة كبيرة بكل تأكيد، تكمن قيمتها الفنية ليس في موهبتها والطريقة التي استطاعت بها فك القيود المحاطة بموهبتها فحسب، حيث دروس إدارة الموهبة، والتدرج بهذه الموهبة من مرحلة البداية إلى مرحلة الكمال الفني، بل قيمة سعاد هي قيمة الأفلام التي قدمتها، تلك الأفلام التي عبرت عن هموم مجتمعنا، عن أزماته، وعن مأزق إنساني بشكل عام، وأسئلة إنسانية في غاية الروعة والجمال، جمال جدير بواحدة من صاحبات أجمل الوجوه الأنثوية في التاريخ الإنساني وهي سعاد حسني.