جذور الفكر «القُفَفى» و«البقرى» فى مصر!
لم يكن ما تفوه به أحد حاملى درجة الدكتوراه الأزهرية- الذى عمل رئيسا لقسم بإحدى الكليات الأزهرية عقب جريمة القتل العمدى لفتاة مصرية على أبواب جامعة مصرية- جملة عارضة منفلتة، ولا يمكن أن نضعها تحت عنوان مريح (لا تمثل إلا شططا يخص قائلها). إن فعلنا ذلك فنحن نكون قد اخترنا خداع أنفسنا.
لأن هذه العبارات تمثل رؤية متكاملة عبرت – وما زالت تعبر عنها – أصوات بعض النخبة وكثير من أصوات العامة، كما عبرت عنها وثيقة هامة من وثائق الحملة الفرنسية على مصر نقلت وحفظت لنا رؤية مجتمعية مصرية عامة للمرأة بأنها (بقرة)..
وما بين الفكر (البقرى) فى نهايات القرن الثامن عشر، وبين الفكر (القُففى) المعاصر، أحاول فى هذا المقال إلقاء الضوء بشكل موضوعى على المسكوت عنه فى معضلة المجتمع المصرى المعاصر ونظرته العامة وموقفه الواقعى من المرأة..
فى كتابى (الكتاب الأسود) الصادر العام الماضى، بحثتُ لسنوات قصة مصر مع الحضارة وكيف تغيرت شخصية مصر التاريخية عبر العصور تغيرا تراجيديا. ومن أهم أركان ذلك البحث كانت المرأة المصرية، وموضعها فى المجتمع المصرى بانى الحضارة مقارنة بموضعها الآن ونظرة ذلك المجتمع إليها عبر العصور المتلاحقة.. ولقد انتهيت فى بحثى إلى نتائج مبهرة فى البدايات، مفزعة فى النهايات المعاصرة.. ومن تلك النتائج أقتطف تلك العبارات الشارحة للفكر القففى والبقرى فى مصر وكيف استقر فى ؤووس المصريين!
.. قبل الغزو العربى لمصر، كانت المرأة فى مصر ذات شأنٍ عظيم.. عقد العقود باسمها ولها شخصيتها فى شتى مناحى الحياة.. اهتمت بزينتها وجمالها وتركت لنا إرثا عريقا من أدوات زينتها تزدان به متاحف العالم.. تولت المناصب الكبرى حتى إنها وفى فترة الدولة القديمة منذ أكثر من اثنين وعشرين قرنا قبل الميلاد قد تولت منصب حاكم مدينة بصعيد مصر بإقليم أسيوط.. حصلت على حق تطليق نفسها.. وحق الإرث مثل الرجل.. هذا عن الجانب العملى، أما عن الجانب النظرى فقد احتلت مكانا بارزا فى لعب أدوار دينية ذات قداسة، فكانت إيزيس الحامية المخلصة رمز الأمومة.. وحتحور رمز الفنون والموسيقى.. وسخمت رمز الانتقام من الأعداء.. لذلك لم تتوارَ المرأة المصرية فى الظل، كما لم يأنف المصرى من ذلك الدور واحتفى به ولم يرَ فيه أى انتقاص من قدره وقامته..
وفى مكانٍ آخر بعيد عن مسرح هذه الحضارة والمدنية، كانت قبائل العرب تعتقد فى سيادة الرجل على المرأة فهو بعلها أى سيدها.. منح لنفسه حقوقا لم يمنحها للنساء، واغتصب حقها فى الإرث وجعل الطلاق بيده وحده، بينما أجاز لنفسه الاتصال بأى امرأة أخرى.. بعضهم نظر للمرأة نظرتهم للشيطان ووصفوها بالمكيدة والمكر والخديعة وأنها كالحية فى المكر، ونظر الرجل لرأى المرأة أن فيه وهنا وضعفا وينقصه الضبط والدقة، وأنها سبب الشرور.. كما تعصب لمظاهر الرجولة التى تميزه عن المرأة ومن أهمها اللحى ..
.. بعد دخول المسيحية مصر، كان بعض رجال الدين ينظرون للمرأة نظرة قريبة من النظرة البدوية ويعتبرونها مصدرا للشر ولغواية الرجل، وحاولوا ترويضها بتوجيهها للرهبنة، فاقتطعت المسيحية جزءًا من بريق المرأة المصرية مجتمعيا، لكن هؤلاء لم يكن لديهم من القوة ما يفرضون به تلك الرؤية على المجتمع أو على المرأة، فاحتفظت المرأة المصرية فى العصر المسيحى بكثيرٍ من شخصيتها التاريخية..
بعد الغزو العربى لمصر وفى القرون الثلاثة الأولى اتبع العرب سياسة (الترانسفير القبلى) الممنهج لنقل عشرات الآلاف من أفراد القبائل من شبه الجزيرة العربية إلى مصر ونشرهم جغرافيا شمال وجنوب الوادى والدلتا.. وفى تلك القرون الثلاثة – التى شملت عصر الولاة والدولتين الطولونية والإخشيدية- كانت مصر قد تغيرت بالفعل، من حيث التركيبة السكانية والتركيبة الدينية بتحول غالبية المصريين للإسلام لأسباب متعددة. ثم كان التغير الأخطر بتغلغل الفقهاء فى تسيير الحكم وتوجيه الحكام، مع سيرة الحكام أنفسهم (خلفاء-ولاة)، وهو تغير مصر سلوكيا وحضاريا واجتماعيا.
وكانت (البدونة والقبلنة) من مفردات هذا التغير التراجيدى الكبير فى الشخصية المصرية، وفى القلب من ذلك موضع وموقع المرأة ونظرة المجتمع لها. ففى تلك القرون بدأت النظرة العامة للمرأة التى نعانى منها الآن فى التبلور والوضوح. حيث بدأت القبائل - تعضدها سلطة الحكم وقوة السلاح - فى نشر إرثها القديم بأن المرأة مصدر الشرور والعار والإغواء للرجل ومنبع الخطيئة..
مع تحول المصريين للإسلام بدأ الاختلاط المجتمعى بين القبائل الوافدة طمعا فى قمح وعسل وذهب مصر والقبائل المهجرة بقرارات الخلافة لأغراض السيطرة القبلية وبين المصرييين، لكن المشكلة الأكبر كانت فى عدم إدراك الجميع – قبائل عربية ومصريين – لماهية الفوارق بين كل من حدود الشخصية العربية القبلية وعاداتها وأحكامها وعقائدها الاجتماعية من جانب، وبين حدود وتعاليم الديانة الجديدة أو الإسلام. لقد امتزجت شخصية القبيلة مع شخصية الديانة فى نموذج واحد يحمل جذور ما تدفع مصر ثمنه الآن . وجعل رجال الدين مؤيدين بسلطة الحكم وقوة الحكام وقوة العشائر من ذلك النموذج سيفا أسموه (النموذج الإسلامى) يلوحون به فى وجوه مخالفيهم، وأحيانا يطيحون برقاب هؤلاء المخالفين إن رأوا ذلك، بل قد استخدموه أحيانا ضد أى والٍ أو حاطكم يخالفهم. ومن سوء حظ المرأة المصرية، أن كثيرا من تفاصيل هذا النموذج كان عبارة عن شرائط حريرية تم تطريزها عبر العقود لخنقها وتحويلها إلى نسخة متطابقة من المرأة البدوية، فبدأت المرأة المصرية معاناتها التاريخية منذ تلك القرون حتى الآن.
إن كثيرين يتعجبون اليوم مثلا من تلك النظرة المجتمعية فى قضايا التحرش أو الاعتداء على المرأة فى مصر، حيث يكون السؤال الأول الذى يلقى به أصحاب تلك النظرة تلميحا أو أحيانا تصريحا لإدانة الضحية.. يسألون أول ما يسألون عما كانت ترتديه؟! إن هذا السؤلا الذى يجنح بصورة عفوية لإدانة الضحية هو تلخيص لتلك النظرة القبلية البدوية القديمة التى تم غرسها فى الجسد المصرى فى تلك القرون الأولى...وملخصها أن المرأة وبصفة عامة مبدأية وفى تلك الأحوال غواية للرجل ومصدر للخطيئة، وأنها لابد وأنها قد أغوت من تحرش أو استفزت من اعتدى! وثائق الحملة الفرنسية عن المرأة تمثل النقطة التاريخية الثانية فى الأهمية لتوثيق بشكلٍ لا يقبل الشك حقيقة تجذر تلك النظرة المصرية المجتمعية العامة للمرأة. حيث تكشف تلك الوثائق حالة الجهل والتخلف والأمية وتفشى الأمراض وطغيان غيبوبة تعاطى المخدرات على المصريين. مع تغول وانتشار سلطوى لرجال الدين الأزهريين وقيادتهم المصريين فى مشاهد مأساوية أفاض الجبرتى فى وصفها ونقلتُ بعضها فى مرجعى (الكتاب الأسود).
تنقل تلك الوثائق الصورة كاملة ونعرف منها إلى أى جبٍ سحيق من الإزدراء والتحقير ألقى المصريون بنسائهم إليه.. من تلك الوثائق تلك التى وثقت جريمة تمت فى قرية الرحمانية..
كان السواد الأعظم من المصريين.