الفرعون الصغير.. والاستخدام المفرط للتكنولوجيا!
دعونى أشكر الظروف والأقدار التى جعلتني- بحكم عملى كرئيس قسم الإنتاج الإبداعى الأسبق بالمعهد العالى لفنون الطفل وكأستاذ فى تخصص التأليف والكتابة الإبداعية حاليًا بأكاديمية الفنون- أقوم بالاطلاع على بعض الدراسات التى نُشرت فى أرشيف «طب الأطفال واليافعين» فى العام 2010؛ التى أفادت فى معرفتنا بمضار الاستخدام المفرط للتكنولوجيا لأنه قد تتسبب فى تكسير الروابط العاطفية بين الآباء وأطفالهم، بينما حافظ الاستخدام المعتدل لها على هذه الروابط؛ وأنه يمكن أن يتعرض الأطفال الذين يفرطون فى استخدام التكنولوجيا وألعاب الفيديو للعديد من المشاهد العنيفة التى تتسبب فى رفع معدل الأدرينالين ومستويات التوتر لديهم، وذلك لعدم قدرتهم على تمييز حقيقة ما يشاهدونه، حيث أظهر الأطفال الذين يشاهدون الكثير من العنف عبر وسائل التكنولوجيا المختلفة ارتفاعًا فى معدل دقات القلب بالإضافة إلى مستويات التوتر العالى للنظام الحسى.
من أجل ذلك رأيت أنه من واجبى ومن باب الأمانة العلمية والإنسانية؛ أن أقوم بالتنبيه والتحذير من تلك المشكلة المتفاقمة فى وقتنا الحاضر؛ ولآثارها السلبية ــ ليس على الطفل فقط ــ على كل فرد فى المجتمع بتقليل التواصل الفعلى بين الأفراد؛ حيث يتلاحظ أن المكالمات الهاتفية عن بُعد؛ والرسائل النصِية باتت تحل مكان التواصل الفعلى عن قرب؛ وهو الأمر الذى أدى إلى إحداث التغيير الجذرى فى مفاهيم الترابط والتماسك العائلى كما تعلمنا من آبائنا؛ هذا التماسك والتآلف القائم على العون والمشورة والمساعدة.
وما يهمنا فى واقع الأمر؛ هو الطفل المصرى والطفل العربى أيضًا، ومحاولة إنقاذه من الوقوع بين براثن «التكنولوجيا» و«الميديا» وما يتبعها من آثار سلبية على العقل وطريقة التفكير والتعامل مع بقية الأفراد فى محيط عالمه الصغير.
وأخشى ما أخشاه أن يقوم البعض باتهامى برفض ما جلبته لنا الحضارة والتقدم العلمى المتسارع والمُذهل فى عالم التكنولوجيا، ولكنى أبادر بالتحذير للأمانة والإنسانية، وأرى أن هذا التقدم العلمى أطاح بكل السلوكيات الكلاسيكية داخل منازلنا؛ وأولها الاستغناء عن الاستماع إلى «المذياع» فى البرامج الصباحية التى تبدأ بعزف الموسيقى و«يا صباح الخير ياللى معانا» و«صبح الصباح محلاه .. والشمس جايَّة معاه»؛ واستبداله باللجوء إلى الجلوس بالساعات قبالة الشاشة الفضية «التليفزيون» وما يقدمه من برامج قد تستعصى على مفاهيم «الطفل» وأفكاره البكر ونظرته إلى العالم من خلال البرامج التى لا تُشبع نهمه وتوقه إلى الدخول إلى عالم المعارف التى تتوافق وتطلعاته الذهنية والعقلية.. وبالضرورة قيامه بالمقارنة بين ما يشاهده عبر التليفزيون وبين ما يتعامل معه من تطبيقات فى عالم «الميديا» فى برامج الـ«يوتيوب» المذهلة؛ التى تمنحه السعادة الوقتية وإزجاء الوقت فى التعرف إلى عوالم متباينة فى الثقافات التى تختلف كل الاختلاف عن الأعراف والتقاليد والثقافات والسلوكيات السائدة فى مجتمعه؛ فيسقط المسكين كقطعة الحديد الساخن بين المطرقة والسندان؛ ويكون الناتج الطبيعى طفلًا مشوش التفكير ومشتت الوجدان!
هذه لميحات سريعة ومقتضبة؛ تشير إلى الآثار السلبية الناتجة عن الاستخدام الخاطئ للتكنولوجيا؛ ولا أنكر أن بها الكثير من المنافع والخدمات الجليلة للمجتمع والوطن بل للعالم أجمع؛ ولكن ينقصها الترشيد والتوجيه والمتابعة الجادة من الأساتذة المختصين العارفين بأسرار وبواطن سلوكيات الطفل المصرى والعربي؛ ولن يتأتى هذا بالتعامل مع «شرائح» منفصلة داخل المجتمع؛ ولكنه يتأتى بالعمل على استصدار «قرار جمهوري» - وليس توصية - بإنشاء قناة تليفزيونية مختصة لخدمة عالم الطفل والطفولة؛ وما أكثر الأدباء والكتَّاب والشعراء؛ وكتَّاب المسرح فى مصرنا المحروسة؛ الذين وهبوا حياتهم وأفكارهم للكتابة لعالم الطفل والطفولة؛ والمادة العلمية بأقلام هؤلاء الكتَّاب والمجدولة بالثقافات العامة جاهزة وحاضرة؛ ولكنها تعانى الإهمال على أرفف المكتبات فى قصور الثقافة؛ وأيضًا سنجدها بمكتبات المنازل كـ«ديكور» لمجرد التباهى واستكمال الشكل الثقافى.. وتنادى: حى على القراءة والفهم والتطبيق .. ولا حياة لمن تنادى!
إن عجلة الزمان تدور دورتها الأبدية التى لا تتوقف ولا ترحم؛ ونخشى كل الخشية أن تدعسنا فى طريقها لأننا وقوف لا نتقدم؛ ونتوجس خيفة من كل الأفكار الجديدة؛ وكيف لا نمتلك الجرأة فى الإسراع بإنشاء «قناة الطفل المتخصصة»؛ ونحن تحت ظلال «الجمهورية الجديدة» بقيادة وزعامة الرئيس عبدالفتاح السيسي؛ هذا العملاق الذى أتى ليفتح مصاريع أبواب التقدم والانطلاق نحو آفاق الرفاهية لمصرنا المحروسة وشعبها ونرى- فى عهده - جبال الجرانيت الشاهقة قد انشقت بطونها لتصبح طرقًا معبَّدة تصل الشرق بالغرب والشمال بالجنوب.. فهل ستستعصى «قناة تليفزيونية متخصصة للطفل» على رجالات الفن والدراما والثقافة المصرية التى علمت العالم؟! إننا يجب ألا نلقى بعالم الطفل فى دائرة النسيان؛ فلا ننسى أن «أحمس الأول» الفرعون الصغير وملكًا من ملوك مصر القديمة ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة؛ وُضعت فى عهده الأسس لعصر الدولة الحديثة الذى استطاع قيادة الجيش المصرى وهزيمة الهكسوس وطردهم من منطقة الدلتا؛ وهو لم يتخط سنواته التسع عشرة وهذا لم يأت من فراغ .. بل أتى نتيجة الثقافة التى تعلمها بين جدران المعابد فى «طيبة» التى ما زالت فى القلب لم تتغير؛ ولكن نحن من تغيرنا ونسينا - أو تناسينا- تاريخنا القديم.
يحدونى الأمل فى الاستجابة إلى مطلب نادى به المهتمون بمستقبل طفلنا المصرى فى المقام الأول حرصًا عليه من الغزو الخارجى الذى يمسخ هويته ويشكله تشكيلًا يبعده كل البعد عن هويته كفرعون مصرى صغير يتلمس أولى خطوات المعرفة لبناء شخصية سوية تحمل هوية نقية بلا شوائب ولا تأثيرات تشوه مصريته وانتماءه الوطنى فى مهده، فلنحرص بجدية على صون هذا الكيان الوليد ونوفر له كل سبل الحماية فهو المستقبل الذى سنتكئ عليه فى استكمال مسيرة التنمية والبناء.. أليس كذلك؟!