البحث عن الزمن المفقود
توجد جوائز كثيرة للترجمة فى وقتنا الحالى، ومع هذا يشعر المهتمون بالثقافة والمعرفة بعزلة عن العالم، وأمس الأول قرأت موضوعًا فى جريدة الشرق الأوسط يؤكد من خلاله ناشرون لبنانيون أن القارئ العربى وخصوصًا فى مصر والخليج يُقبل «بشكل ساحق» على الكتب المترجمة، وأن الإقبال على الأعمال العربية، وخصوصًا الروايات بشكل ملحوظ.
وكان رأى صاحب دار التنوير فى المقال المنشور: «التأليف فى العالم العربى ضعف كثيرًا، خصوصًا فى المجال الفكرى، بعد كتب نصر حامد أبوزيد، وعبدالله العروى، وغيرهما، وغياب محمد أركون.. المستوى الأكاديمى انحدر، والتعليم عمومًا، وكذلك النتاجات العملية، كما أن ثمة تغيرًا فى مزاج القراء الذين باتوا لا يحبذون الكتب الفكرية الصعبة، ويفضلون عليها الكتب الفلسفية السهلة والخفيفة، إضافة إلى الروايات المسلية».
الناشرون فى كل الأقطار العربية متذمرون ولا يكفون عن الشكوى، يتحدثون عن ارتفاع أسعار الورق والطباعة، وحقوق الترجمة، ومع هذا لم يتوقف أحدهم عن العمل، وطوال الوقت أطالب بأن تهتم الدولة بالترجمة كما كان يحدث فى فترات طويلة من تاريخنا، ولا تنتظر الربح من هذا العمل الجليل، الذى تزدهر كل مناحى الحياة بازدهاره، ستقول لى إن الدولة المصرية أنشأت المركز القومى للترجمة، سأقول لك إنه مشروع عظيم وطموح، ولكن غير مؤثر، ويطبع كميات قليلة.
وفى الفترة الأخيرة أصبحت أسعاره قريبة من أسعار القطاع الخاص الذى ينتقى الرائج، ولا يهمه غير الربح، المترجمون الجيدون قليلون، وإذا احتكمنا لذائقتهم، غالبًا لن تناسب أصحاب دور النشر، وحاجتنا إلى وجودهم تتزايد مع مرور الوقت، بسبب انتشار الترجمات الآلية التى تفتقد إلى الروح، فوجود جوائز لهم شىء إيجابى، هذه الجوائز وصلت إلى ٣.٧ مليون دولار سنويًا، إلا أنها لم تسهم فى ارتباطنا بثقافات العالم المختلفة، هل لأننا نؤمن بأننا أفضل من الآخرين؟، هل لأن المناخ الدينى المتغلغل يستريب فى ثقافة الذين لا يدينون بديننا؟، هل لأننا نشعر بأن العالم يتآمر علينا؟، لقد اهتم السابقون بالترجمة فنًا وعلمًا، الأمر الذى ساعدهم على التفاهم والتفاعل مع الحضارات الأخرى، وبالتالى نقلها من مكان إلى آخر. وقد كان للعرب دور مهم فى هذا المجال، هارون الرشيد أنشأ فى دولته مدرسة لهذا الفن وأمدها بالمال وجلب لها أفضل المترجمين، وظهر مترجمون مبدعون منهم حنين ابن إسحاق ويوحنا البطريق، لقد أسهمت هذه المدرسة فى نقل الحضارة الإغريقية إلى أوروبا، حيث ترجم القائمون عليها ما كتبه الإغريق إلى العربية، ومن ثم نقله الأوروبيون إلى لغاتهم.
وفى مصر أنشأ رفاعة رافع الطهطاوى مدرسة الألسن عام ١٨٣٥، وكانت هذه المدرسة قد قدمت الكثير من الترجمات عن الفرنسية إلى العربية والعكس، كما أنها قامت بدور مهم مع الحملة الفرنسية على مصر، وهذه المدرسة ما زالت حتى يومنا هذا، بل هى الآن إحدى كليات اللغات المهمة التابعة لجامعة عين شمس المصرية، وهناك كلية اللغات والترجمة بالأزهر، كما يظل قسم اللغة الإنجليزية بجامعة القاهرة إحدى أهم منصات إطلاق المواهب الكبيرة فى الترجمة عن اللغة الإنجليزية، وكليات اللغات والترجمة بالجامعات السعودية، ومدرسة الترجمة بجامعة الخرطوم ومدارس أخرى لتعليم الترجمة ودراسة فنونها بالجامعات البريطانية، كما أن الأمم المتحدة تبدى اهتمامًا كبيرًا بهذا المضمار فأنشأت مدرسة للترجمة فى فيينا بالنمسا. ومع كل هذا الثراء نشعر بأننا غرباء فى هذا العالم.. أعاد أحد الأصدقاء مؤخرًا نشر تحقيق يشير إلى زمن وطريقة تفكير كانت سائدة قبل ٦٧ عامًا، التحقيق نشرته مجلة «روزاليوسف» فى مارس سنة ١٩٥٥، والسبب أن الرئيس جمال عبدالناصر علم أن الدكتور طه حسين يضع مشروعًا لترجمة الآثار الأدبية والفكرية العالمية إلى اللغة العربية، وأنه يبحث عن أربعة آلاف جنيه لكى يبدأ، فقام الرئيس بوضع خمسين ألف جنيه تحت تصرف عميد الأدب العربى لهذا الغرض، ذهبت المجلة إلى رموز مصر فى هذا الزمن تستطلع رأيه: ماذا نترجم أولًا؟، الدكتور محمد حسين هيكل قال إنه يثق فى ذائقة العميد وما يختاره، العقاد طالب بترجمة الكلاسيكيات وفلسفة اليونان وما كُتب عنا كعرب، سلامة موسى رفض أن تترجم الكتب الأدبية على نفقة الدولة، وطالب بترجمة عدد من الكتب، على رأسها أصل الأنواع لداروين وكتاب فجر الضمير لجيمس هنرى بريستد. كما طالبت الدكتورة سهير القلماوى هى الأخرى بدارون وشكسبير، نجيب محفوظ طالب بترجمة بعض الأعمال بينها الأوديسا لهوميروس والكوميديا الإلهية لدانتى والبحث عن الزمن المفقود لبروست، كان هناك إحساس عظيم بالمسئولية، ورغبة فى نقل ما أبدعته الإنسانية لتثقف شعب يحتاج أن يعرف، لكى يشيد، بلده متسلحًا بالمعرفة التى نهضت الأمم المتقدمة عليها.