تشخيص ثلاثى لأزمات العالم
أكثر ما استوقفنا فى كلمة الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، خلال الجلسة الرئيسية لـ"منتدى سانت بطرسبرج الاقتصادى الدولى"، هو تكرار هجومه على "دول المليار الذهبى" التى قال إنها "ما زالت ترى كل الدول الأخرى مستعمرات من الدرجة الثانية". وكذا تأكيده على أن روسيا ستتعامل مع مَن يريد التعامل معها من القادة القادرين على التمييز بين مصالح أوطانهم والإملاءات الخارجية.
تركزت كلمة الرئيس الروسى بدرجة كبيرة على العقوبات الغربية المفروضة على بلاده، وتأثيرها السلبى على الاقتصاد العالمى، والأوروبى تحديدًا. وقال إن "العالم وصل إلى هذا الوضع نتيجة للأنشطة التى قامت بها الدول الصناعية السبع الكبرى على مستوى الاقتصاد والسياسة". وجدّد تأكيده على استعداد بلاده لتأمين عمليات الإمداد، مشترطًا قيام الجانب الأوكرانى بنزع الألغام التى زرعها قرب الموانئ.
مع تشديده على أن "زمن الهيمنة الأمريكية والعالم أحادى القطب قد انتهى"، قال الرئيس الروسى إن الاتحاد الأوروبى "فقد سيادته بالكامل، وبات يخضع بشكل أساسى للإملاءات الخارجية". وبعد إشارته إلى أن خسائر الدول الأوروبية بسبب العقوبات على روسيا زادت على ٤٠٠ مليار دولار، وأن مستوى التضخم فى بعض تلك الدول تجاوز الـ٢٠٪، هاجم "بوتين"، أيضًا، الحياة السياسية فى أوروبا، وقال إن "العمليات الديمقراطية فيها تشبه ألعاب السيرك"، متوقعًا أن تكون النتيجة المباشرة لتصرفات السياسيين الأوروبيين هى تفاقم عدم المساواة فى دولهم، وتزايد انقسام مجتمعاتهم، ما سيؤدى فى النهاية إلى تغيير النخب الحاكمة.
فى تلك الجلسة، تحدّث الرئيسان المصرى والصينى، عبدالفتاح السيسى وشى جين بينج، بالصوت والصورة، عبر الفيديو كونفرانس. وكما أكد الرئيس بوتين أن "صمود الاقتصاد الروسى يرجع إلى جهود تنموية ضخمة جرت خلال سنوات طويلة" وإلى الشعب الروسى "القادر على التعامل مع التحديات مهما ازدادت"، أشار الرئيس السيسى، أيضًا، إلى ما شهدته مصر، خلال العقد الماضى من أحداث استثنائية كان لها تأثير بالغ على مجمل الوضع الاقتصادى فى البلاد، وقال إن الشعب المصرى نهض للعبور من هذه الأزمة من خلال دعم رؤية واضحة عمادها الأساسى هو الاستثمار فى الإنسان وتنمية قدراته.
مصر هى ضيف شرف هذه الدورة، الدورة الخامسة والعشرين أو يوبيل المنتدى الفضى. وفى كلمته أعرب الرئيس السيسى عن اعتزازه بعلاقات الصداقة التاريخية مع روسيا الاتحادية، وبالتطور الملموس الذى شهدته خلال السنوات الأخيرة فى العديد من القطاعات الحيوية، وبتنفيذ مشروعات كبيرة وطموحة، تخدم البلدين، وتستجيب لتطلعات شعبيهما، وتمنّى أن تسهم مخرجات المنتدى فى إيجاد حلول فعالة للتحديات السياسية والاقتصادية غير المسبوقة، وذات الطبيعة الاستراتيجية، التى يواجهها العالم، وبالشكل الذى يخفف من وطأة الأزمة الاقتصادية العالمية، وتداعياتها السلبية على العديد من الدول، خاصة الدول الناشئة.
مواجهة تلك التحديات أو التصدى لهذه الأزمات، ذات الطابع الدولى، يتطلب أيضًا، كما قال الرئيس، جهدًا دوليًا وتعاونًا من جميع الأطراف من أجل إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعى، والعمل على استعادة الهدوء والاستقرار على الصعيد الدولى، ورفع المعاناة عن الشعوب التى تنشد السلام والتنمية، عبر تفاهمات سياسية طويلة المدى تفتح المجال لنمو الاقتصاد العالمى. وبالمثل، دعا الرئيس الصينى شى جين بينج إلى اتخاذ تدابير مشتركة لمكافحة أزمتى الطاقة والغذاء، وتعزيز علاقات التعاون بين دول الشمال والجنوب وتوسيع شبكة شركاء التنمية، وتدويل الموارد وتوسيع شبكة الشركاء الاقتصاديين. وقال إن نمو حجم التجارة بين الصين وروسيا، الذى بلغ منذ بداية العام ٦٥ مليار دولار، يشهد على قدرة الطرفين على مقاومة الضغوط.
.. وتبقى الإشارة إلى أن فكرة أو نظرية "المليار الذهبى" تقوم على أن موارد الأرض تكفى لتلبية احتياجات مليار نسمة فقط، هم سكان ما يوصف بالعالم الأول. ومع أن الدول الاستعمارية قامت بتطبيق هذه الفكرة، منذ قرون طويلة، وبنت رفاهية شعوبها على نهب ثروات الدول التى استعمرتها، إلا أن أساسها النظرى، الفكرى أو الفلسفى، وضعه الاقتصادى الإنجليزى "توماس مالتوس" فى كتاب عن المشكلة السكانية، صدر سنة ١٧٩٨، وكان مبررًا، أو تلكيكة، للإبادة الجماعية، وتعقيم أو إخصاء ملايين البشر!