لماذا نحب أم كلثوم؟
انتهت زوبعة الإساءة إلى الست أم كلثوم باعتذار الشاعر ناصر دويدار عن الكلام الخايب الذى قاله فى ندوة باتحاد الكتاب، والذى تعرض فيه لحياتها الشخصية، وقبلت أسرة كوكب الشرق الاعتذار بعد أن سافر صاحب الزوبعة إليها فى طماى الزهايرة بالمنصورة، وكنت منزعجًا من نصب المشانق للشخص المذكور، رغم استيائى الشديد من كلامه غير المسئول والسطحى عن حياة «الست».
محبتنا لهذه السيدة العظيمة لا تعنى أننا نقدسها، ونتحول إلى جنود فى معركة هى ليست معركة، ونعتبر من يخالفنا الرأى عدوًا لنا، أم كلثوم استقرت فى الوجدان، وما زالت تغمرنا برقتها وموهبتها من خلال أغانيها التى تسكن معنا وفى قلوبنا.
صورتها البهية لن تتأثر برأى طائش هنا أو هناك، وكم من الكتب والمقالات التى استهدفتها فى حياتها وبعد رحيلها، ولكنها لا تُذكر أمام فيض ما كتب فى تمجيدها، وهذا قدر الشخصيات العظيمة.
حين نتتبع مسيرة صوت مصر الصداح سنكتشف أن أم كلثوم أصبحت أكبر من مطربة، نستطيع أن نقرأ جانبًا شجيًا من تاريخنا الفنى والاجتماعى والسياسى من خلاله، فبعد الحرب العالمیة الأولى اجتاحت مصر موجة من الأغانى الخفیفة السریعة، الملیئة بالكلمات الركیكة والأداء السوقى، وتم ابتذال التراث العظیم للموسیقى الشرقیة لإرضاء الطبقة الجدیدة، كما يحدث هذه الأيام بالضبط، وازدهر فن الكباریه الذى فرض ذوقه على أسماء كبیرة مثل عبداللطیف البنا وداود حسنى وزكریا أحمد ومنیرة المهدیة، وأصبح الملحنون الكبار غرباء على الزمن الجدید، وكان على رأسهم الشیخ أبوالعلا محمد، الذى ظل وفیًا لمدرسة القرن التاسع عشر، وعندما ظهر له صوت أم كلثوم تشبث به، واعتبره فتحًا جدیدًا وسط مناخ لا یشجع على المقاومة.
فى سنة ١٩٢٤، غنت له «الصب تفضحه عیونه» فى صالة «سانتى»، وفى الحفل نفسه غنت لطبیب الأسنان صاحب الروح القاهریة المتحررة صبرى النجریدى «خایف یكون حبك لیه» لتبدأ الأسطورة التى كانت حديث الجميع فى الفترة الأخيرة.
لقد حمل صوتها طموحات الوجدان منذ عشرينيات القرن الماضى، وأرخ الملحنون بهذا الصوت للتحولات التى طرأت على المصریین، وربما كان محمد القصبجى الذى كان ینتمى إلى التیار السائد آنذاك هو الذى اكتشف فى صوت أم كلثوم طاقة التجدید القادمة، فغیرت حیاته وأسلوبه، فى لحنه الأول لها عام ١٩٢٤ «قال إيه حلف» كان یجارى السوق، ولكنه فى ١٩٢٧ قدم معها «إن كنت أسامح وأنسى الأسیه» المونولوج الذى اعتبره النقاد فتحًا فى الموسیقى وهز عرش سلطانة الطرب منیرة المهدیة، ونجح نجاحًا لم یصدقه أحد.
وفى العام نفسه كون لها تختًا موسیقیًا ضم أهم موسیقیى زمانهم، وكان لتعرفه على الموزع الموسیقى العبقرى عزیز صادق كبیر الأثر فى النقلة الجدیدة، وظل مخلصًا لفكرة الغناء الحدیث، فى الوقت الذى ترید فیه أم كلثوم الطرب، وخصوصًا بعد فشل فیلم عایدة وأغانیه، ورغم نجاحها مع زكریا وبیرم فى فیلم سلامة لم تستغن طویلًا عن القصبجى الذى عمل معها- بالشروط الجدیدة- «یا اللى انحرمت الحنان، نورك یاست الكل، وصباح الخیر یا اللى معانا».
ثم جاءت مرحلة الإذاعة التى بدأتها سنة ١٩٣٤، وبات الجمهور خلیطًا غریبًا یتكون من جمهور المسرح والمقاهى والبیوت والبلاد العربیة، وبدأت مرحلة الأغانى الطویلة التى تحتاج الى مقدمة موسیقیة تتصاعد فیها الأنغام فى قفزات شیقة تثیر حماس الجمهور المختلط، وتراجع دور الملحن العبقرى، لیتقدم السنباطى وزكریا لسنوات طویلة، ولكنه فى ١٩٤٤ قدم أعظم ألحانها «رق الحبیب»، وبقى خلف ظهرها بوجهه المخلص وروحه الجمیلة حتى رحیله فى ١٩٦٦.
ویتجاهل كثیرون دور داود حسنى، الذى درب صوت أم كلثوم بأجمل الأدوار فى الفترة بین ٢٥ و١٩٤٥، لأنه كان الوریث الشرعى لمدرسة القرن التاسع عشر الذى عاصر الحامولى ومحمد عثمان وسلامة حجازى وأیضًا عاصر سید درویش والقصبجى ومحمد عبدالوهاب، وتتمیز ألحانه بأنها مزیج من رصانة أبوالعلا ومفاجآت القصبجى وشعبیة الشیخ زكریا أحمد، وزكریا هو الذى اقترح على والدها الذهاب إلى القاهرة عندما سمعها فى السنبلاوین، ومع هذا لم یلحن لها إلا بعد ثمانى سنوات، لأنه كان متفرغًا للمسرح الغنائى.
وستجد نقادًا یقصرون التجدید على الاستفادة من الغرب، ویقولون إن القصبجى مجدد والسنباطى بین بین، وزكریا تقلیدى، وهذا غير صحیح، لأن التجدید لیس محصورًا فى الاقتباس من أسالیب الموسیقى الغربیة ولیس التقلید یعنى المحافظة على خصائص الألحان السابقة، وزكریا نجح بسبب معرفته بالناس وانغماسه معهم واستفادته من تراث البداهة والمجاورین والشجن المخفى، وأصبح مجددًا حقیقیًا، لأنه قدم مزیجًا رائعًا بین التركیب والبساطة والوقار والخفة والتطریب، وكانت ألحانه إعادة اكتشاف لصوت أم كلثوم، لأنه أعاد له فطرته وحریته وأخرج منه مناطق كانت مختبئة منذ الطفولة البعیدة.
ولم یعرف جمهورها الفرح كما قالت سهیر عبدالفتاح فى كتابها البديع «صوت من مصر» إلا مع ألحان زكریا أحمد، الذى تراجع هو الآخر بسبب محمد عبدالوهاب فى بدایة الأربعینیات، الذى كان یغنى قصائد لأحمد شوقى وعلى محمود طه وأحمد فتحى، وكانت أم كلثوم تغنى أزجالًا لرامى وبیرم، وكان یستخدم آلات الأوركسترا وهى تستخدم الآلات الشرقیة، وكانت المنافسة فى سوق الغناء لصالح عبدالوهاب، ورفض زكریا وقبله القصبجى التخلى عن طریقتهما فى التلحین، ووافق ریاض السنباطى، الذى أخذ عن عبدالوهاب فكرة المقدمة الموسیقیة، واستخدم بعض الآلات الغربیة، واستعان بكبار الشعراء، لیبدأ مع أم كلثوم مرحلة أخرى.
أم كلثوم جلست فى الوجدان ولا تستطيع قوة فى العالم زحزحتها، وهى لا تخص أسرتها فى طماى الزهايرة وحدها، هى تخص كل عشاق الموسيقى من المصريين والعرب، هى أصبحت معنى عظيمًا فى حياتنا، وإذا أساء أحدهم إليها، فهو يسىء لتاريخه، لست مع تقديس أى شخص، حتى لو كان أم كلثوم، والتى ينبغى أن نشجع الكتابة عنها وعن زمنها، ونتقبل وجهات النظر المختلفة، لأن الجدل حولها سيزيد من حضورها، لأننا فى حاجة إلى صوتها فى كل الأوقات.