كمال رحيم.. كاتب تاريخ الذين كانوا هنا
فى العام ١٩٧٨، التقى الكاتب كمال رحيم، فى باريس، مواطنًا فرنسيًا، اسمه أندريه، تعود أصوله إلى يهود مصر الذين غادروا المحروسة منتصف القرن الماضى بعد تضييق الخناق الذى مارسه نظام الرئيس جمال عبدالناصر ضد يهود مصر. ويبدو أن ذلك اللقاء ترك أثرًا كبيرًا فى نفس كمال رحيم، خصوصًا عندما تدفق أندريه فى سرد ذكرياته عن مصر، وحياته فيها وحياة كل اليهود المصريين الذين كانوا فى تلك السنوات جزءًا لا يتجزأ من نسيج المجتمع المصرى، وكانت لهم إسهاماتهم فى كل المجالات من اقتصاد وفن وسياسة وغيرها. إلا أن الكلمة الفاصلة التى قالها أندريه لرحيم، وكانت بمثابة إيذانً ولحظة تدشين لمشروع رحيم الروائى عن اليهود المصريين، كانت عندما قال أندريه للكاتب المصرى: «لا تنسونا».
وُلِد كمال رحيم سنة ١٩٤٧ بمحافظة الجيزة، وتحديدًا فى قرية المنصورية، وتخرج ضابطًا للشرطة فى العام ١٩٦٨، ثم تدرج فى السلك الشرطى حتى وصل إلى تولى منصب المدير العام للإنتربول، وهو حاصل على دكتوراه فى القانون العام من جامعة القاهرة ١٩٨٦. وسبق له أن حصد جائزة الدولة التشجيعية، قبل أن يُعلن منذ أيام عن حصوله على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب.
تتميز مجموعة من أعمال كمال رحيم بسمة الاتكاء على ذات الكاتب، إذ نبعت تلك الأعمال من عوالم وتجارب وخبرات حياتية مر بها، ويتجلى ذلك فى روايتيه «أيام لا تُنسى»، و«بورسعيد ٦٨»، فالأولى، تتناول عالم القرية المصرية والريف، وهى البيئة التى وُلِد فيها رحيم وتأسس وكبر، فى قرية المنصورية بمحافظة الجيزة، متشربًا ثقافة القرية المصرية، وراصدًا طبيعة العلاقات الاجتماعية فيها: الصراعات والتوافقات والتقاليد.
رسم رحيم صورة خالدة للريف المصرى، بكل تفاصيله، الحقول الزراعية والفلاحين ودوار العمدة والصراعات المحتدمة حول منصب «العمودية»، الشائعات التى تتطاير فى الريف بسرعة كبيرة، والأوهام التى يعتنقها هؤلاء المزارعون البسطاء. والعلاقات العائلية والاجتماعية المتينة التى تسود فى ريف مصر، وما يتخللها من مناكفات وخلافات وصراعات بل مواقف فكاهية هزلية.
أما فى رواية «بورسعيد ٦٨»، فاستند فيها الكاتب الكبير على الفترة التى قضاها فى المدينة الباسلة، التى امتدت أثناء عمله ضابطًا، إلى قرابة السنوات الست، فى الفترة التى أعقبت نكسة ١٩٦٧، يقول رحيم فى أحد لقاءاته التليفزيونية: «اشتغلت فى بورسعيد فى ظروف حرب»، وهكذا تمكن من رصد ومعاينة وقع النكسة على مدينة بورسعيد، ورصد تفاعل المدينة الباسلة مع تلك الفاجعة، ومحاولاتها للنهوض من العثرة، وآخر أطياف البُعد الكوزموبوليتانى للمدينة، لا سيما مع حضور شخصيات من المصريين اليونانيين والمصريين الإيطاليين.
لقد عايش رحيم تلك العوالم وعاينها عن قرب، واستخلص منها ملامح حضرت بقوة فى أعماله، وجعل منها فضاءً مكانيًا لشخوصه وحكاياته، لذلك اتسمت تلك الأعمال بقدر كبير من «الصدق الفنى»، فقد كتب صاحب «قلوب منهكة» عما يعرفه، فخرجت تلك الأعمال كنماذج دقيقة وحية لمصر وشعبها، سواء فى الريف أو فى مدينة بورسعيد.
تيار آخر واضح يتجلى فى مشروع كمال رحيم الروائى، وربما يكون الملمح الأبرز فى مشروعه، وهو الحفر والتنقيب فى تاريخ يهود مصر، من خلال الثلاثية الشهيرة «المسلم اليهودى» و«أيام الشتات» و«أحلام العودة»، وعن ذلك يقول الناقد عبدالمنعم تليمة: «فكرة بديعة خارج الإطار التقليدى، ربما مسها آخرون، لكنها لم تكن البؤرة. كمال رحيم هو الذى جعلها البؤرة، وبسرد رشيق وعميق».
طرح كمال رحيم فى ثلاثيته حكاية شديدة الحساسية، تتناول جزءًا من نسيج المجتمع المصرى منتصف القرن الماضى، عندما يقع شاب مصرى مسلم فى حب مصرية يهودية، ويتزوجان رغم معارضة الأهل، قبل أن يستشهد الشاب المسلم فى إحدى المعارك، تاركًا نطفته فى أحشاء زوجته اليهودية، لينتج عن تلك الزيجة الطفل «جلال»، الذى يحمل فى داخله النقيضين، مصرى عربى مسلم من ناحية الأب ويهودى من ناحية الأم.
يحفر كمال رحيم عميقًا فى هذه التركيبة النفسية المعقدة للغاية، ويطرح فى الرواية التنافر العائلى بين ذوى الطفل جلال من ناحية الأب وناحية الأم، يطرح سؤال الهوية الوطنية والحضارية مقابل الهوية الدينية، فى فترة معقدة شهدت اندلاع الصراع العربى الإسرائيلى ثم تفاقمه عبر عدة حروب. أما فى «أيام الشتات» فنرى جلال المنفى، الذى رحل مع عائلته عن مصر قاصدًا فرنسا، حيث أقام فى حى «بارباس» فى مدينة باريس، إنها رواية عن اليهود المصريين بعد مغادرة مصر، ومتابعتهم أخبار البلاد التى غادروها دون إرادتهم.
بالزمن يفقد جلال أفراد عائلته، يموت بعضهم، وكان موت جده هو الحدث المفصلى الذى سيجعله يفكر فى العودة لمصر، فى هذه الأجواء تدور أحداث الرواية الثالثة من الثلاثية وهى «أحلام العودة»، وذلك بعد أن شعر جلال بالغربة فى فرنسا إثر تضاؤل معارفه، ومن يتخذ قراره بالرجوع إلى مصر، غير أنه يجدها مختلفة عن تلك التى غادرها قبل سنوات، لقد صار الشتات جزءًا من تكوين شخصية جلال.
تطرح الثلاثية أسئلة عن الهوية والتسامح الدينى، وترصد حقبة مهمة من تاريخ مصر، وتغوص ببراعة فى نفسيات أبطالها، لا سيما جلال المقسوم بين الإسلام واليهودية.
برع كمال رحيم فى تقمص شخصيات رواياته، حتى تلك المركبة والمعقد منها، وهذا التمكن من التقمص هو مناط الجدارة الأبرز فى روايات كمال رحيم، فنجده يتقمص شخصية ومستوى وعى الطفل الراوى فى «أيام لا تُنسى»، يحكى على لسانه أحداث دوار العمدة فى تلك القرية، والعلاقات بين الناس فى الريف.
ثم فى ثلاثيته، نراه وقد اخترق بدقة كبيرة وإلمام نفسية جلال بطل الرواية، ليتمكن من تقديم انشطاره النفسى بين عالم المصريين المسلمين والمصريين اليهود، يجسد حيرته وآماله وأحلامه بلغة هادئة وسلسة وبأداء مقنع. إنها عملية تقمص كاملة ومحكمة.
الأمر نفسه يسرى على الشخصيات الروائية النسائية، إذ لا يشعر القارئ أثناء القراءة، بأن تلك الشخصية، هى امرأة يحركها أو يكتبها رجل، بل بفضل براعة كمال رحيم فى التقمص، والتوحد مع الشخصية المحكى عنها، تشعر بطبيعية الشخصية وانسيابيتها.