إبراهيم عبدالمجيد.. راوى تاريخ الإسكندرية.. الهارب من «البلدة الأخرى»
هناك دروس وحلول واقتراحات يمكن أن يقدمها كل فنان ومبدع وطنى لوطنه بدافع البناء لا بدافع الهدم، وبدافع المحبة الخالصة لا بدافع الكره، هذا هو دور الفن الحقيقى فى كل العصور، تقديم رؤى مختلفة وحلول جذرية للمشاكل المجتمعية نابعة من خلفية ثقافية ومعرفية كونتها الخبرة والأيام.
الأديب والكاتب الكبير إبراهيم عبدالمجيد هو واحد من هؤلاء الفنانين الكبار، هؤلاء الذين استطاعوا التعبير عن أزمات وطنهم ومشاكله بكل الحب والإخلاص، فإبراهيم عبدالمجيد من مواليد ديسمبر ١٩٤٦، وهو شاهد على جزء كبير من تاريخ مصر الحديث، وشاهد على أحداث فارقة ومؤثرة فى التاريخ المصرى بشكل عام.
ومع الحركة التى سميت بحركة الرواية الجديدة، التى انطلقت من مصر فى ستينيات القرن الماضى ثم شملت الوطن العربى، وكان من أبنائها الكاتب الكبير صنع الله إبراهيم والكاتب جمال الغيطانى وغيرهما، تكوّن جيل استطاع أن يعبر عن معاناة الشعب المصرى فى كل فترة، ولكن بأسلوب آخر بعيدًا عن أسلوب الرواية الواقعية أو الكلاسيكية.
ولذلك كان لا بد لفنان مثل إبراهيم عبدالمجيد، شاهد على مراحل تاريخية تموج بالأحداث والتغيرات العاصفة على كل الأصعدة، أن يكون الخطاب المجتمعى فى رواياته حاضرًا وبقوة ومؤثرًا ومعبرًا عن المجتمع حتى نصل إلى آخر روايتين له، رواية «العابرة» التى أتبعها بثلاثية «الهروب من الذاكرة».
فى روايته العابرة الصادرة عن دار المتوسط للنشر، بغلاف بديع معبر للفنان السورى الناصرى، يطرح إبراهيم عبدالمجيد على لسان بطلة الرواية سؤالًا فى غاية الأهمية «هل بلدنا ترانس جيندر ولا نعرف؟».
بطلة أو بطل الرواية هو إنسان يعانى من اضطراب فى الهوية الجنسية، لمياء بطلة الرواية هى أنثى من حيث المظهر الخارجى ولكن فى داخلها رجل، والداها مثل أغلب الناس «يمشيان ينظران إلى الأرض» لا يهتمان بها، لا يعرفان ما تعانيه من اضطرابات قد تؤدى إلى الانتحار.
فى دائرة لمياء الصغيرة، أى المكونة من الأسرة والبيت، نرى بيتًا مفككًا، الأم لها مشاكلها الخاصة وأشياء تعانى منها، الأم تائهة بين الأفكار المحيطة بها من تحرير للمرأة أو تحجيبها كليًا، أى يكون دور المرأة مختصرًا فى العمل المنزلى فقط، ورجل البيت المشغول فى عمله الذى يكاد ينهار بسبب الضغوط الاقتصادية الطاحنة، وأبناء مضطربون فى أزماتهم الخاصة النفسية والجسدية، وكأن الكاتب هنا يشير إلى أن تفسُخ وتحلل المجتمع هو نتيجة للاضطراب الأسرى فى الأساس، فالبيت هو مجتمع صغير.
ولذلك كان من الطبيعى أن يصل الاضطراب إلى المجتمع ككل، بين سيدة فى المترو تنصح لمياء بالحجاب لأنها تراه فريضة، وترى أن «البلد خرب منذ خلعنا الحجاب»، فى حين أن نفس السيدة تعانى من كبت جنسى يجعلها تفتح ساقيها فى المواصلات العامة حتى تتحرش بها لمياء التى هى أيضًا تعانى من مرض جنسى.
أنت هنا أمام شكل من أشكال الاضطراب المجتمعى وهو التمسك بظواهر الأمور، التمسك الشديد بالحجاب والتعصب لفكرته، ولكل ظواهر الدين والبُعد عن جوهر الدين، لحد تكفير الذى لا يرتدى الحجاب، فى وسط هذا الزيف ومجتمع لا يعرف ماذا يريد ويقف حائرًا بين الأفكار، نصل كما حدث فى الرواية، حيث تحجبت زميلة لمياء المسيحية، وبالرغم من ذلك تتعرض أيضًا تلك الفتاة للتنمر، حيث يقولون لها «تشبهك بالمسلمين حرام، والمسلمون فى غنى عنه».
وعن طريق بعض المواقف والأحداث التى تتعرض لها لمياء، نستمر فى رؤية هذا التمسك الزائف بكل ما هو سطحى، حتى نصل إلى الأم التى تلقى جثتى طفليها فى الزبالة.
نص رواية «العابرة» وكذلك «الهروب من الذاكرة» لا يؤسسان أو يحملان شكلًا تجريبيًا جديدًا على مستوى الرواية، وأظن أن هذا شىء أراده الكاتب الذى اعتاد التجريب فى رواياته، «فى كل أسبوع يوم جمعة» كمثال، حتى يستطيع توصيل وجهة نظره للمتلقى بأسهل شكل وطريقة، فالروايتان تسيران بشكل أفقى منتظم معتاد، حيث الحدث يترتب عليه حدث آخر، حتى ينتهى بنا المطاف إلى تحول كبير تنتج عنه أحداث أخرى كما حدث فى القسم الثانى من «العابرة»، لا يوجد أى شكل من أشكال التعقيد داخل النص، فالسرد متدفق ومحكم يفيض بالأسئلة الخطيرة، ولكن تلك الأسئلة لا يتم تقديمها بشكل يجعل الرؤية عند القارئ ضبابية أو معتمة سوداوية، بل الكاتب يأخذنا معه بسلاسة لنبحث عن إجابات لتلك الأسئلة بكل يسر، التى هى أسئلة يطرحها مجتمعنا فى كل لحظة.
هذا بالرغم من أن قصة «العابرة» هى قصة جديدة على الأدب العربى، وأظن أنها لم تطرح من قبل بهذه الجرأة والإسقاط والدلالة، فتقريبًا لا وجود لشكل من أشكال الفن العربى تناول قضية العابرين جنسيًا وما يعانونه فى المجتمع، والربط بين أزماتهم وأزمات المجتمع.
وبناء عليه فإن النص الذى يقدمه إبراهيم عبدالمجيد لتحليل المجتمع فى «العابرة»، الذى سيتطور ليأخذ قصة جديدة وشكلًا جديدًا ولكن بجوهر واحد فى «الهروب من الذاكرة»، يمكن أن نعتبر أن كلتا الروايتين تحتويان على بنيتين، بنية فوقية تتمثل فى القصة رغم اختلاف القصة فى الروايتين وأسماء الشخصيات، فإننا نستطيع أن نربط بين لمياء وحمزة وزينب ومجدى أبطال الروايتين وكل الشخصيات بكل معاناتهم وأزماتهم على اختلافهم، فثمة خط واحد يجمع بينهم لأنهم يعيشون فى مجتمع واحد يمثل البنية التحتية للنص، بكل ما فيه من أزمات ومشكلات نبحث لها عن حلول.
بجانب أن الإنسان هو جوهر روايات إبراهيم عبدالمجيد، حيث يأتى الكاتب فى كل رواياته وتحديدًا الروايتين الأخيرتين بنموذج إنسانى أو حالة إنسانية خاصة تحتاج إلى التفسير والتحليل والتأمل، فأنت لا تملك سوى تأمل لمياء أو حمزة فى «العابرة» ومجدى فى «الهروب من الذاكرة»، لتستنتج كثيرًا من التفاصيل الإنسانية التى لا تخص شخصًا بعينه أو بطل الرواية فقط، بل تخص كل البشر. وفى الروايتين أيضًا هناك استخدام للفانتازيا والسحر الذى لا يخلو من نقد للواقع بكل ما فيه، فمثلًا يمكن أن نرى المشهد الخيالى الذى يصوت فيه أعضاء مجلس الشعب فى أول اجتماع له فى عصر الخديو إسماعيل بطريقة غريبة ولكن يمكن تفسيرها، وكذلك رؤية أنور السادات وهو يلعب الورق مع حسن البنا، إنه خيال خصب يستعيد لمحات من التاريخ ليعيد تأويلها بصيغة عصرية.
وإذا عدنا إلى «العابرة» وجدنا أن لمياء التى تحولت إلى حمزة فى رحلة دراماتيكية واقعية كاشفة فاحصة، سينتهى به الأمر فى ساحة المحكمة، فى مشهد هو عبارة عن ملهاة تأخذ مسحة مأساوية، ففى تلك اللحظة يدرك الإنسان الذى عاش مضطربًا سجينًا منطويًا على أفكاره ومشاعره وجسده، أن السجن ليس هو القضبان والسور بل السجن ممكن أن يتم صنعه وخلقه بطول ورحابة الدنيا.