ثورة يوليو بين عبدالناصر والسادات
نقترب جدًا من الذكرى السبعين لثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، إذ تهل علينا هذه الذكرى بعد أقل من شهرين، ونعتقد أن مرور سبعين عامًا على هذا الحدث المهم فى تاريخنا المعاصر قد يكون فرصة لإجراء مراجعة تاريخية هادئة، ليس بغرض تقديس الحدث ولا حتى التهوين من شأنه، ولكن قراءة واعية للماضى تساعدنا على فهم الحاضر، من أجل النظر إلى المستقبل.
ومن الكتابات المهمة بشأن تاريخ ثورة يوليو كتاب «فصول من ثورة ٢٣ يوليو»، وتنبع أهمية هذا الكتاب أولًا من شخصية مؤلفه، الدكتور وحيد رأفت، أحد أهم فقهاء القانون المصرى، والفقيه القانونى الذى لعب دورًا فى صياغة قوانين العديد من الدول العربية، كما لا نستطيع أن ننسى دوره فى مفاوضات الدفاع عن طابا، وقد تمتع وحيد رأفت فى حقيقة الأمر باحترام الجميع.
لكن من ناحية أخرى، يفاجئنا وحيد رأفت فى عام ١٩٧٨ بإصداره كتابه الشهير «فصول من ثورة ٢٣ يوليو»، هذا الكتاب الذى أثار ضجة كبرى حين صدوره؛ حيث قدم المؤلف شهادته كرجل قانون وسياسى على فترتى عبدالناصر والسادات.. وهنا لا بد من الإشارة إلى مشكلة تاريخية مهمة، وهى تقديم الشهادة التاريخية عن زعيم أو رئيس بعد وفاته، أو زوال حكمه؛ إذ عادةً ما يأخذ المؤرخون هذه الشهادة بحذر، خاصة إذا كان صاحب الشهادة التاريخية لم تُعرَف عنه معارضته لهذا الزعيم أو النظام من قبل، فهل ينطبق ذلك على كتاب وحيد رأفت؟
يصف وحيد رأفت فترة حكم جمال عبدالناصر قائلًا: «إن عبدالناصر ترك لخليفته فى الحكم (السادات) شعبًا ممزقًا يعانى من اليأس والشعور بالضياع بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧، وبلدًا محتلًا يتحكم الاحتلال الإسرائيلى فيه من حدود سيناء حتى قناة السويس، ويسيطر الاتحاد السوفيتى سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا على الأجزاء الباقية منه، وديونًا آخذة فى التضخم تكبل الجيل الحاضر والأجيال المقبلة لسنوات وسنوات، واقتصادًا منهارًا، وخزانة مفلسة، ومرافق مستهلكة ومهلهلة، ومصانع بعضها معطل لحاجتها إلى الصيانة وقطع الغيار والتمويل، وخرابًا فى القيم والمُثُل العليا، وفسادًا متفشيًا فى إدارة المصالح العليا.. وإجازة مستمرة غابت خلالها مفاهيم الديمقراطية وسيادة القانون، وديست حُرمة القضاء، مما مكّن مراكز القوى من أن تعيث فى البلاد فسادًا، وأن يتسلط على المواطنين حكم الإرهاب وسيف الديكتاتورية».
قد يوافق البعض على ما قِيل أعلاه، ولكن أعتقد أن الأكثرية ستعترض على وجهة النظر تلك، أو على أقل تقدير ستتحفظ على الكثير مما ورد فيه، وربما أول نقد يوجه لشهادة وحيد رأفت أنه يكتب ذلك بعد وفاة عبدالناصر، وفى عهد السادات.. ولا ينفى وحيد رأفت تأثره بكتاب «عودة الوعى» لتوفيق الحكيم، ونقده الفترة الناصرية، بل يستند أيضًا إلى مقالات صالح جودت الذى أعلن فى الوقت نفسه عن أن شرعية ثورة ٢٣ يوليو سقطت مع هزيمة ٦٧، وأن السادات وانتصاره فى حرب أكتوبر بمثابة شرعية جديدة، كما يشيد وحيد رأفت نفسه بحركة التصحيح التى قام بها السادات فى ١٥ مايو ١٩٧١.
ربما كانت نظرة وحيد رأفت لثورة يوليو، أو الفترة الناصرية، نظرة سوداوية تحت تأثير هزيمة ٦٧، وتأييدًا للحاكم الجديد «السادات»، الذى تم تقديمه على أنه يمثل شرعية جديدة؛ هى شرعية حرب أكتوبر ٧٣، لكن أعتقد أن شهادة وحيد رأفت ستتغير بعض الشىء بعد أحداث سبتمبر ١٩٨١، وهو ما سُمى بـ«خريف الغضب»، وإلقاء السادات القبض على كل الرموز السياسية المصرية، بما فيها حزب الوفد الذى كان يميل إليه وحيد رأفت.
هكذا لا بد أن نأخذ الشهادة التاريخية بحذر، وفى إطار السياق التاريخى المصاحب لها.