الرواية الفائزة بالبوكر.. تساؤل فلسفى عن معنى الرجولة
منذ أيام تم إعلان فوز رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد»، للكاتب الليبى محمد النعاس، بجائزة البوكر العربية للعام ٢٠٢٢.
والرواية تتحدث عن مشكلة من أهم المشاكل الفكرية والمجتمعية التى يعانى منها العرب منذ سنوات طويلة، ومن السطر الأول وحتى الأخير يصطحب الكاتب القارئ معه ليبحثا عن إجابات لأسئلة كثيرة تتعلق بالعادات والتقاليد والموروثات التى تتربى عليها الشخصية العربية وتكون مكونة لوجدانها، وواحدة من عوامل تأخرها دون أن تدرى.
الرجولة سؤال ثابت وبحث مستمر
هناك سؤال واحد يظل مستمرًا منذ الصفحات الأولى للرواية وحتى الصفحة الأخيرة، وهو: ما هى الرجولة؟ ومن هو الرجل؟! ينغمس قارئ النص مع الكاتب فى البحث عن إجابة لهذا السؤال، عن طريق المجتمع الذى يصور الرجل فى صورة الشخص القوى الجبار المتحكم فى بيته وأسرته ويستطيع جلد أو سجن أو ضرب زوجته أو أخته أو أى أنثى فى عائلته، لأنه أدرى بمصلحة البيت وما ينفعهن أكثر منهن، والرجل فى المجتمع له الحرية المطلقة فى كل ما يفعل، وتتخذ هذه العادات المجتمعية شيئًا من القدسية بعد إضافة مسحة دينية عليها.
هذا هو مأزق «ميلاد» بطل الرواية، الإنسان العربى الذى قال داخل النص إنه ولد فى بيئة لا تحلم ولا تشجع على الحلم، ميلاد الذى يظل يبحث عن مفهوم الرجولة ومن هو الرجل، يحاول ميلاد التمرد على هذه العادات، فهو لا يريد أن يكون قويًا أو جبارًا بل لا يستطيع من الأساس، فأشد ما يريده هو العيش فى سلام، لا يريد أن يكون متحكمًا فى نساء بيته للدرجة التى قد تجعل رجولته فى نظر المجتمع ناقصة لأنه يسمح بإناث بيته بالذهاب إلى الجامعة أو ركوب التاكسى مع رجل غريب هو السائق، أو حتى ارتداء أنثى من نساء بيته البنطلون الجينز، وبالتالى يتم وصفه من قبل المجتمع بالديوث.
أنت فى مجتمع يُعلّى من شأن الرجل مهما كانت أخلاقه أو علمه أو شخصيته، ويُحقّر من شأن المرأة، وتتخذ هذه النظرة القبلية بعض الأمثلة العامية التى يضعها الكاتب فى مفتتح كل فصل داخل الرواية لتوصيل تلك الرؤية المجتمعية الخاطئة.
ولكن ثمة نقطة أخرى وسؤالًا آخر وهو: ما دور الرجل فى المجتمع أو الحياة؟ وما دور الأنثى؟!
فبعد أن يتزوج ميلاد من زينب بعد قصة حب، نرى أن الظروف دفعت ميلاد ليكون هو القائم بأعمال المنزل التى تقوم بها المرأة فى المجتمعات العربية، من الطبخ وغسل الملابس وكيّها وتنظيف البيت وما إلى آخره، فى حين أن زينب زوجته هى التى تقوم بالمهام التى يفعلها الرجل فى الواقع، فهى التى تذهب كل صباح إلى العمل وتعود مجهدة.
هذه إشكالية أخرى وسؤال يجب أن يُسأل: لماذا رفض مجتمع الرواية، وترفض المجتمعات العربية، مثل هذه الحياة التى اختارها ميلاد وزوجته زينب لتكون حياتهما؟، وهذا يحيلنا إلى سؤال آخر: هل الإنسان يجب أن يعيش كما يريد هو أن يعيش ويصنع ويفعل ما يسعده؟ أم يعيش وفق العادات التى جرت عليها الأمور والتى يمكن ألا توفر له السعادة؟!
الدين والخبز والمحبة
«هناك دين حقيقى وهناك دين المجتمع، والأمران مختلفان».
«الزنا يا زينب يا بنتى هو مواقعة الرجل المرأة من دون حب».
يستمر الكاتب فى طرح الأسئلة أيضًا حول هذه العادات المجتمعية والقوانين التى صنعها البشر على أنفسهم، والدين الذى هو من الله للإنسان، الدين الأول الذى من صنع البشر بالتأكيد يمكن أن يكون به الكثير من الأخطاء التى قد تدمر حياة الإنسان كما دمرت حياة ميلاد بطل الرواية، ولكن ثمة دينًا من الإله للإنسان، جاء هذا الدين لمنفعة الإنسان وخدمته وتوفير سبل السعادة له وليس الشقاء.
أما عن الخبز، فهو من الأشياء المقدسة عند الإنسان بشكل عام وعند العرب بشكل خاص، فلا يمكن أن ننسى بعض الأمثال العامية التى تقدس العيش والخبز، أو ثورة يناير ٢٠١١ التى نادى فيها المصريون أول ما نادوا «عيش حرية عدالة اجتماعية».
بطل الرواية هو خباز، ولكن يجب أن نتوقف ونتأمل طويلًا تأملاته حول الخبز، فالخبز فى الرواية به إسقاط على التفاوت الطبقى بين كل طبقة وفئة ونوع الخبز الذى تتناوله، وعلاقة الثورات بالخبز وحركة المجتمع بل وتاريخ ليبيا قبل وبعد الاحتلال الإيطالى، وهناك ربط بين صنع الخبز وتشكيل الإنسان، فهل يتشكل الإنسان كما يتشكل الخبز من عجين ليّن يمكن تشكيله؟
ماذا يربط «السراب» ورواية «البوكر»؟
هناك نقطة أخيرة يجب التوقف عندها، وهى أن هناك نقاط تشابه كثيرة بين رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» وبين رواية «السراب» لنجيب محفوظ التى صدرت منذ عشرات السنوات.
فبطل رواية محفوظ، كامل رؤبة لاظ، وبطل رواية النعاس، ميلاد، كلاهما يعانى من أزمة جنسية واحدة، هى الأزمة التى ينفجر منها جوهر الروايتين، والتى هى ناتج لتربية خاطئة منذ الطفولة، وأسباب «فرويدية» تجتمع فى كلا البطلين، مثل تأثير الأسرة والمجتمع، فبطل محفوظ كانت أمه هى سبب عقدته، ولكن بطل «النعاس» نرى أباه وهو يضربه ويصفعه لأنه يجالس البنات وهو طفل.
ثمة نقطة تشابه بين زينب زوجة ميلاد وبين زوجة كامل فى «السراب»، فالاثنان دفعتهما الظروف غير الطبيعية إلى نوع واحد من الخيانة، تبدو فى الروايتين دوافع الخيانة واحدة نحو نفس الطرف.
تمتد نقطة التشابه هذه لتصل إلى مدام مريم التى يخون ميلاد زوجته معها، والتى تحيلنا إلى شخصية محفوظ التى كان البطل يخون زوجته أيضًا معها، والاثنان يشعران شعورًا واحدًا أثناء ممارسة الخيانة وتكون دوافعهما واحدة. ونهاية الرواية جاءت أيضًا شبيهة للغاية بنهاية رواية محفوظ، فكلا الروايتين انتهتا نهاية مأساوية لنفس الأشخاص المتشابهين فى كلا الروايتين، ولكن بطرق مختلفة.
ولكن فى كل الأحوال رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» هى رواية مميزة وجيدة على كل المستويات، تطرح أسئلة ليست بالجديدة لأننا نطرحها منذ مئات الأعوام وسنظل نطرحها لطالما بقيت نفس السلبيات موجودة فى مجتمعاتنا العربية، ولكن بأسلوب متمكن ومحكم.