الخرافة.. والنفوذ
بين الحين والآخر تطل من شبابيك الذاكرة حكاية تاريخية تدفعك لتأملها وإعادة صياغتها، ربما لتؤكد لنفسك أولًا إيمانك بقدرة المصريين على تجاوز الأزمات مهما كانت كبيرة، وربما لتأمل نوع المشكلات التى كانت تواجه الدولة فى مرحلة ليست بعيدة فى التاريخ.
سنة ٢٠١٠ صدرت فى لندن دراسة وثائقية عن الأزهر والإصلاح الإسلامى للأمريكية أنديرا فولك، قرأت فصولًا منها عن طريق الباحث ماجد فتحى قبل سنوات، وتذكرت واقعة شغب رواق الأزهر، وكيف نجحت الدولة فى التصدى للجهل والخرافة، رغم تردى الأوضاع، وأذكر أننى نشرت جزءًا كبيرًا من البحث فى مجلة «ديوان الأهرام» أيام كنت مسئولًا عنها، عبدالكريم سلمان، سكرتير مجلس شئون الأزهر، كان قد كتب تقريرًا سنة ١٨٩٦ عن سوء الظروف الصحية فى جامع الأزهر وما حوله، وعن أن الطلبة الفقراء لم يجدوا سكنًا يأويهم، عاشوا فى صحن المسجد يأكلون ويشربون ويبيتون فيه، وأصبح المسجد «منامة» كبيرة للمئات، واضطر بعض الطلبة إلى النوم على السطح، وغطيت مساحات واسعة من أرضيات المسجد وباحته ببقايا الطعام وبالتبعية الفئران، وعمت الفوضى المكان بسبب تناثر الأمتعة، وانتشرت روائح لا تتسق مع المسجد العريق، ولم يحصل على درجة العالمية سوى طالب واحد، وملأ التعصب صدور الطلبة، كما كتب الشيخ أحمد الشاذلى، ودارت المعارك هنا وهناك، وكانت أقواها بين طالب من الصعيد وطلبة رواق الشام لأنه حاول النوم فى رواقهم، واضطر البوليس إلى التدخل للفصل بينهم، فى صيف هذا العام ضربت الكوليرا مصر، ووصلت حالات الوفاة إلى أربعين حالة فى اليوم، وكانت الحكومة حريصة على محاصرة الوباء والسيطرة بالعديد من الإجراءات المتشددة، إلى أن أُصيب طالب شامى بالمرض، وفضّل أبناء بلده المخاطرة وعدم تسليمه للسلطة التى تريد نقله إلى المستشفى، وعندما حاول المسئولون أخذ المريض بالقوة قاوم الشوام بضراوة، تدخلت الحكومة بالقوة المسلحة وقتل طالب برصاص البوليس، هذه لحظات كانت مصر تسعى فى اتجاه الحداثة وفرض النظام مثل الأوروبيين، وكانت المعركة بين الطلبة والحكومة على أجساد الطلبة المرضى، بالطبع توجد فى ذاكرتهم القريبة انتقال طالبين «شامى ومغربى» إلى المستشفى لنفس السبب ولم يعودا لأنهما فارقا الحياة، كان شيخ الأزهر حسونة النواوى تلقى إشارة بوجود تجمهر فى الرواق، وأخبره الطلاب بأن «كل من يذهب إلى المستشفى يموت»، إلى هذا الوقت لم يكن الشعب مطمئنًا لتسليم جسده إلى السلطة، بسبب العادات وبسبب خرافات بعض المشايخ، ومعركة قصر العينى هى من معارك الحداثة العظيمة والانتقال بمصر من مرحلة إلى أخرى، وتناولها ببراعة الدكتور خالد فهمى فى أكثر من كتاب، انتصر الطب الحديث بقوة القانون، وأصبحت للجسد شهادة ميلاد وشهادة وفاة لا يدفن إلا فى وجودها، اقترح النواوى أخذ الطالب إلى قريبه، أخبروه بأن صاحب البيت رفض، لأنها الكوليرا، تفاصيل المفاوضات طويلة وتم ضرب محافظ القاهرة ماهر باشا لأنه يريد التفاوض لحل المشكلة دون عنف، ورئيس الوزراء حذر الجنود من التعامل بالقوة، وقام المحافظ بعمل حجر صحى حول الجامع الأزهر بأكمله من جميع النواحى، وأعلن عن أنه تحوّل لمصحة وبائية، وأغلقت المنطقة، ولم يتوقف قذف الجنود بالحجارة، ثم وصلت التعزيزات بقيادة رئيس البوليس الإنجليزى مستر كلاوس، دخل الجنود حرم المسجد بالقوة وقبضوا على ١٠٥، وسيق المتهمون إلى قسم السيدة زينب، ووجد الطالب المصاب بالكوليرا ميتًا، واتهم البوليس المشايخ لأنهم لم يتدخلوا بالشكل الكافى، الخديو عباس حلمى منح ماهر باشا النيشان المجيدى وأشاد بالبوليس، وأغلق رواق الشام لمدة عام، وتم ترحيل ستين طالبًا شاميًا، وحكم بالسجن على عدد كبير منهم بأحكام متفاوتة، التدخل حاصر الكوليرا والخرافات ورجال الدين الخائفين على نفوذهم.. وأيضًا كان شغب الكوليرا هو سبب إصدار قانون الأزهر سنة ١٨٩٦.. الذى حسّن من ظروف الطلبة ومنح الدولة سلطة على المكان.