بساتين الدلتا الجديدة وشياطين الإحباط
شتان بين أولئك الذين يجلسون على «مقاهى الإنترنت» ومَنْ سمع وشاف ورأى بعينيه ذلك النهر الأخضر الممتد فى صحراء كانت إلى وقت قريب شمطاء جرداء غبراء لا خير فيها ولا ماء.. ولا بشر طبعًا.
شتان بين مَنْ اغتسلت عيناه برائحة الندى.. ومَنْ لم يتذوق فى حياته سوى «روائح عفنة وبقايا صراصير» تخرج من تلك الكتب الصفراء التى أباحها لهم جهلاؤهم الأمراء.. هذا إن توفرت لهم فرصة للقراءة من الأصل.. أشك فى حكاية أنهم وصلوا إلى فكرة القراءة من الأصل.. لأنهم لو كانوا يعرفون القراءة من الأصل «يمكن كان فهموا»، لكن ممن تطلب الفهم؟!.
هذا الأخضر المترامى.. قمحًا وزيتونًا وأعنابًا.. هو الجنة بعينها.. أنا ذلك الشخص الذى يرى فى «الخَضار» جنات عدن التى وعدنا الله وقد حلّت فى أراضينا.. ولا شىء يضاهى هذه البهجة خاصة فى أيامنا هذه.
منذ سنوات طويلة ونحن نكتب عن ذلك الحلم «تعمير الصحراء».. وأذكر أنه كانت لدينا «هيئة» بحالها اسمها كذلك.. وكانت هناك عشرات من الشركات اتخذت لها من التعمير اسمًا.. اسمًا فقط.. لكن على الأرض كان العكس هو الذى يحدث.
يعرف القاصى والدانى.. الكبير قبل الصغير.. أن تلالًا من قمائن الطوب الأحمر كنا نشاهدها جهارًا عيانًا وقد احتلت معظم أراضينا على جانبى الطرق.. نسافر من الغرب أو الشرق نركب السيارات أو عبر القطار.
كنا نشاهد ذلك منذ بداية السبعينيات من القرن الماضى- وقت أن انتشرت أغنية عدوية «السح الدح إمبو» ثم تبعتها رائعته «زحمة يا دنيا زحمة»- فى ذلك الوقت خرج الفلاح المصرى من المعادلة، ولم يعد، وخرجت الزراعة من «حيز تفكيرنا».. صارت الخردة ملمحًا وقيمة وسمة.. زحفت العشوائيات بالتوازى مع قمائن الطوب الأحمر.. وارتفعت العمدان فى باطن الأرض.. فتحت بطون حضارتنا وقوتنا وعزتنا قبل أن نفتح «بطن الأرض»، وصار لدينا موسرون جدد من تجريف الأرض وبيعها لمن يريد بناء «البيوت المسلحة».
منذ ذلك الحين ونحن بعيدون تمامًا عن «الحلم» الذى داعب «محمد على» فى يوم بعيد.. لكنه سرعان ما تم تدمير ما بدأ فيه «محمد على» على يد أحفاده، وأولهم «الخديو عباس» الذى أغلق معظم المصانع التى بناها جده توفيرًا للنفقات من ناحية وليعطى الفرصة للجمارك لتحصيل «الأموال» التى يسد بها رمقه ويملأ بها خزائن دولته.
منذ غادر الإصلاح الزراعى، وفى أواخر أيامه لم يعد إصلاحًا بالمرة، وجاء زمن «حلق حوش» ومن والاهم.. لم تعد هناك أهمية لفكرة الزراعة- حل السفر بديلًا- وجاء الاستهلاك رمزًا لمرحلة غادرنا فيها علاقتنا بكل ما هو «فلاح».. حتى إننا نسخر من «الفلاحين».. وصارت «سبة» من وجهة نظر أبناء المرحلة.. من يومها.. وكل من يتحدث عن حلم «الزراعة».. و«التصنيع».. و«التعمير» مجرد كتبة.. أصحاب نظريات.. لدينا عدد هائل ومذهل ورائع من علماء الزراعة، سواء فى مراكز البحوث أو فى الجامعات أو خارجهما.. ولم يعد هناك معنى لهذا الأمر بعد أن حلّت زراعات «الفراولة والكانتلوب» بديلًا للقطن والقصب والقمح وكل السلع الاستراتيجية.
لا أنظر لعملية الزراعة باعتبارها عملًا فرديًا.. بل هى عملية حضارية وإنسانية متكاملة.. هى حياة افتقدها من هو مثلى.. ونسق إنسانى متحضر.
حياة الحقول تُعلّم صاحبها الإنسانية فى أبهى صورها.. تعلمه الشعر.. والفلسفة.. والحكمة.. وأكاد أشك أن الفلاحين هم أقرب الناس إلى الدين الحقيقى.. هم أكثر من يقرب من حكمة الله فى خلقه.
لقد استولى عشرات الآلاف من «الأفندية والبكوات» على أراضٍ صحراوية بغرض استصلاحها.. لكن هذا لم يحدث على الإطلاق.. وظلت هذه الأراضى الشاسعة فى مواجهة العابرين تناطح عيونهم بأسماء أصحابها على لافتات دقوها على يمين الطرق ويسارها لإثبات الملكية ليس أكثر.. وجاء «المطاريد» ومن سموا أنفسهم «أمراء الصحراء» ليستولوا على الباقى ويبيعوه لمن يريد من بسطاء الأهالى الذين يريدون الزراعة فعلًا.. «وضع يد».. قبل أن تتوه بهم الطرق حتى الملل فى دهاليز «هيئة التعمير».. سنوات طويلة ونحن فى هذا العبث.. حتى جاء الأمس القريب ليتحوّل مشروع «توشكى الخير».. ومن بعده «مستقبل مصر» أو الدلتا الجديدة.. إلى أمر واقع.. أمر ملموس نراه بأعيننا.. ليس مجرد خطة لاستصلاح وزراعة ما يزيد على ثلاثه ملايين فدان.. لكنه «رؤى العين».
هناك فى الجنوب.. طرح النخل الذى زرعناه.. هناك أينعت شجرات المجدول والبارحى «خِلفا» جديدة وتمرًا.. وقمحًا.. وفى الوادى الجديد هناك أيضًا ترى عيونك زهر البرسيم والفول والقمح.. وليس بعيدًا عن «الوادى» الذى شق الرجال عبر صحاريه طرقًا لم نكن نحلم بها.. سواء «ديروط الخارجة» أو «الخارجة سفاجًا».. إلى الميناء، حيث يرقد البحر الأحمر.
وبالأمس كان الرئيس يفتتح رسميًا المرحلة الأولى من مشروع «الدلتا الجديدة».. وما شاهده العالم أجمع بأم عينيه «يفرح القلب الحزين» كما تقول أمهاتنا.. هو إعلان عودة لقيمة الزراعة.. والتصنيع.. لقيمة أن يمتلك المصرى قوت يومه.. هو بداية جديدة لحياة جديدة نحتاجها.. هو تعويض لمصر التى فقدت «رحمها» فى ظروف غامضة فتوقفت عن «الطرح والميلاد»، لكنها عادت الآن لتلد مجددًا عمالًا وصناعًا وفلاحين وضباطًا وعلمًا وأرضًا طاهرة.
هذه المئات من آلاف الفدادين التى ستصل إلى المليون فى «محور الضبعة» فقط، والتى تكلف المليارات، هى الوعد بعمر جديد لهذا البلد الذى يمرض ولا يموت.. هى رسالة معاندة لكل شياطين الإحباط الذين حاولوا وما زالوا يحاولون منعنا من «استعادة أرواحنا» بنشر صفحات اليأس.. والاستكانة.. والفوضى.
العمل ضد الفوضى.. والفرح بقطاف زرعنا ضد إحباطهم.. أكاد أرى فى عيون الأطفال الذين ذهبوا «يلمون» بقايا «السبل»- وقد نشرها عدد من زملائنا الذين كانوا فى الافتتاح- أكاد أرى المستقبل الذى يحمل ذلك المشروع اسمه.. فى نفس اللحظة التى أشاهد فيها هزيمة شياطين اليأس والإحباط.. إنها البداية.. والطريق لا يزال طويلًا بلا شك.