رواية «تاريخ العيون المطفأة».. سردية الماضي الذي يُفسِّر الحاضر
في كتاب "مدخل إلى الأدب العجائبي" يُعرّف تزفيتان تودوروف الفانتازيا بأنها التردد الذي يحسه كائن لا يعرف غير القوانين الطبيعية فيما يواجه حدثًا فوق الطبيعي، من هذا المنظور يُمكن قراءة رواية "تاريخ العيون المطفأة" للروائي والناقد السوري البارز نبيل سليمان، الصادرة عن "دار مسكيلياني للنشر" و"دار ميم".
لا يؤسس نبيل سليمان في روايته عالم فانتازي غير ذي صلة بالواقع، وإنما تصير الفانتازيا في عمله، مثلما هو الحال في كثير من الروايات العربية الحديثة، بما تؤسسه من منطقها الخاص، انعكاسًا لجوانب من أزمة في الواقع المعيش بدأت منذ الماضي، يموضعها الروائي في تاريخ محدد هو عام هزيمة العرب الكبرى 1948، باعتبارها نتيجة منطقية لعورات كانت متخفيّة بالعالم العربي.
يقول أحد شخوص الرواية: "لا تقل إنّك لا تعرف ما جرى سنة 1948 في فلسطين يا ابني والله انهزمنا، بلا مكابرة، انهزمنا واستشهد خالي ورجعت مع من رجع ورؤوسنا منكوسة". يعمد الكاتب إلى إخفاء الزمان الذي تدور به أحداث الرواية، فليس سوى لحظة من الهزيمة النكراء هي ما يذكر بل ما يؤسس عليه السرد عبر الاستعاضة عن الفصول بالعيون، فتصير العين الأولى إلى العين الثامنة والأربعين بديلًا عن فصول الرواية التي هي ذاتها نفس عام الهزيمة النكراء، وكأن الروائي يُقطِّر أسباب وتبعات الهزيمة عبر ثمانية وأربعين فصلًا، بل ويتجاوز ذلك ليُشكِّل عالمًا خربًا ومستقبلًا سوداويًا ونهاية مفتوحة على مزيد من الخراب.
رواية اللا مكان
مثلما تدور الأحداث في زمان مُبهم، يعاني أفراده من أشكال شتى من القهر والظلم، فالمكان بالرواية أيضًا لا وجود له في أرض الواقع لكنه يُحيل إليه. تحمل الجملة الافتتاحية بالرواية "كان لا مكان وغير الله ما كان" وجوهًا عدّة، هنا الراوي الذي يبدأ منقلبًا أو ربما ثائرًا على جملة الحكي التراثية الشهيرة "كان يا مكان" ليُعلن أن كل الأمكنة، في بلدان عربية تشابهت في ماضيها وراهنها، لم تعد ذات أهمية، فالوباء واحد وإن تبدى في صور شتى، ومن ثم تصير البلدان في الرواية "برشمس وكمبا وقمورين" رمزية تصدق على الدول العربية في المشرق والمغرب.
يصف الراوي البلدان الثلاثة، المتخيلة والواقعية في الآن ذاته، بأن الله حباها من نعمه وأنعمت عليها الطبيعة من آلائها لكنها ابتليت بالداء تلو الداء، منها ما هو من دخائل البشر ومنها ما كان يتسلل إليها عبر البجار أو من السماء، وبلغ الأمر بها أن خاضت الحروب كل واحدة ضد الأخرى حتى باتت من أكبر دمامل العالم ومن أكبر سخرياته رغم نبوغ الكثيرين فيها.
سردية العمى
يبدأ السرد، مُحمّلًا بخلفية واسعة عن سردية العمى في أعمال روائية كرواية "العمى" لساراماجو و"بلد العميان" لجورج ويلز، من وباء ضعف البصر وفقدانه، الذي يتفشى في البلدان الثلاث، لكن الكاتب يؤسس عالمه الروائي بالتحاور مع الأعمال الشهيرة التي كان فقدان البصر محورها، عبر شخصية الكاتبة في الرواية؛ آسيا، ليوضح مفهومه عن العمى والبصر على لسان أحد شخصياته؛ العمى كثير يا آسيا، نظام التعليم عندنا، من رياض الأطفال فصاعدا هو عمى، عمى يولد عمى. هذه الفضائيات والإذاعات، هذا الإعلام في بر شمس، بل في العالم كله ليس غير عمى يولد عمى.. ما عليه المرأة هنا، الوباء الأمني، وباء الفساد، وباء الناطقين باسم الله من أي دين.
البصر هو المظاهرات السلمية التي قامت بالأمس القريب ليس في بر شمس وحدها بل في كمبا وفي قمورين أيضا. لنقل البصر هو الشباب الذين خرجوا في هذه المظاهرات ونظموها وقادوها. والعمى بالتالي هو من أجهضوها بأي وسيلة كانت، بالقمع، بركوب الموجة من أجل كرسي الحكم. البصر هو الحرية، هو العلم والمعرفة.
تشترك شخصيات "تاريخ العيون المطفأة" في معاناتها من سيف التسلُط الذي ينجم عنه تقييد الحريات والملاحقات الأمنية والتهجير والاغتيالات، وهو ما يلقي بظلاله على العلاقات التي تبيت سريعة الانزواء وقصيرة المدى في أوطان لا تنعم بحريتها ولا يهيمن على أفرادها سوى شعور مضن بالقهر والهزيمة.
أسرة الشيخ حميد، الذي شهد هزيمة العرب في حرب 48، هي المركزية في الرواية. تضم الأسرة الأشقاء الثلاثة الذين تتشابه مصائرهم مع الكثيرين من أبناء الوطن العربي، فمولود الذي يتمرد على ميراث القهر ويبحث عن تدشين حياة جديدة لا تمت لماضيه بصلة، يتنقل من كمبا محل ميلاده إلى بر شمس لكنه يقع تحت طاولة الملاحقات الأمنية ليضطر إلى الهجرة مرة أخرى إلى قمورين بحثُا عن الاستقرار والأمان لكنه يُستقبل بالملاحقات ذاتها إلى أن يتحول من باحث عن حرية وخلاص إلى عميل لجهاز الاستخبارات، ما يورطه في مواقف خسيسة ضد أقرب الناس إليه؛ أخيه عبد المهيمن وحبيبته مليكة.
الأخ الثالث هو معاوية الذي يمثل السُلطة في الرواية، إذ يعمل عقيدًا في الاستخبارات، ويحاول إنشاء بنك للعيون، للتغلب على تفشي وباء فقدان البصر، عبر اقتلاع عيون المعارضين المحتجزين في مستشفى الأمراض العقلية بكمبا وبيعها لمن يحتاجها لا سيما لذوي النفوذ والسلطة، لكن الرواية تنتهي وقد صار رأس السلطة مُصابًا بالعمى، ويأبي الكاتب أن يضع خاتمة لجل الأحداث المتقدة في عمله إمعانًا في تعزيز السوداوية واستشراف ما هو أسوأ.