صانع البهجة.. وداعًا سمير صبرى
سمير صبرى مات.. خبر يمكن أن يصاغ بأكثر من طريقة.. وإن كانت الصياغة الأصدق والأكثر عدلًا هى أن «صفحة من أكثر الصفحات الفنية ثراءً قد انطوت الآن».
ولو سلمنا جدلًا بأن الفنان لا يموت لأن فنه يعيش بعده بين الناس، فمن أين نأتى بحكايات أبوسمرة التى لا تنتهى؟.. دائمًا عنده حكايات وطول الوقت لديه ذكريات لم تُحك.. حتى آخر لحظة فى عمره كان يمكن لأى صحفى يُجرى معه حوارًا أن يستخرج كنوزًا من الأحداث والذكريات التى عاشها الرجل مع كل أعاظم الحياة السياسية والفنية، الذين مروا على مصر منذ اللحظة التى التحم بهم الشاب الطموح متفجر المواهب.
كأن القدر أراد لسمير أن يكون ما عليه الآن، فالرجل منذ أن كان فى كلية فيكتوريا يعاشر المشاهير من كل الأطياف، وقد منحه الله القدرة على حفظ أسرارهم وتجاربهم، لتضاف إلى مخزون إنسانى ضخم داخله، يستطيع كل من يجلس معه أن ينهل منه دون أن يصيبه النقصان، أو يمل من تكرار الحكايات والقصص.
ولا عجب مثلًا أن يكتب واحد من أهم صحفيى الفن فى الوطن العربى محمد بديع سربيه صاحب مجلة الموعد عن ثراء تجربة سمير صبرى فى مقدمة حلقات طويلة كتبها نتاج حوار مع صبرى سنة ١٩٩٠، حيث قال سربيه بالنص:
خلال السهرة الممتعة والحافلة التى كان سمير صبرى يحتفل فيها بذكرى ميلاده، وحوله عدد كبير جدًا من الزملاء والزميلات، كان يجىء إلى مائدتى بين الحين والآخر، ويهمس لى بحكاية تذكّرها، أو معلومة جديدة يخاف أن تهرب منه إلى النسيان.
الذين كانوا معى على المائدة قالوا لى: لو أنك ستنشر فى «الموعد» كل ما رواه وسيرويه لك سمير صبرى، لاحتاج ذلك إلى حلقات لا تقل عن المائة، ولكننى طمأنت رفاق السهرة أن الحلقات لن تزيد على الخمس والعشرين، وصحيح أنها طويلة، إلا أن كلًا منها مليئة بالأحداث، التى قد لا تكون معبرة فقط عن السيرة الذاتية للنجم المتعدد المواهب، بل أيضًا عن خلفيات الحياة الفنية فى الإذاعة، والتليفزيون، والسينما، خلال مرحلة كثرت فيها المتغيرات على كل صعيد!.
وفعلًا نشر «سربيه» حواره مع سمير صبرى فى حلقات بديعة تدعو للتأمل والتساؤل.. كيف استطاع هذا الرجل أن يقتنص من الحياة كل تلك التجارب والتفاصيل، ومن أين له بالوقت والجهد لكى يفعل كل شىء وأى شىء؟.. فهو حالة فنية فريدة، هو ممثل كوميدى وتراجيدى، وأكشن ومطرب، وراقص بارع ومذيع راديو، والأهم أنه كان أول مذيع توك شو فى مصر، عن طريق البرنامج الأشهر والأعظم «النادى الدولى».
النادى الدولى بالفعل كان ينطبق عليه التعبير الشعبى «يقوم مصر ويقعدها»، استطاع سمير بأسلوبه الفريد فى إدارة الحوار التليفزيونى أن يخلق حكايات وانفرادات غير طبيعية، لم يستطع أى برنامج أن يفعلها.. بل إن الحقيقة التى ينكرها الكثيرون أن برنامج النادى الدولى بقى عصيًا على التقليد، بالرغم من كثرة المحاولات لاستنساخ أشباه له اعتمادًا على ميزانية وإمكانات فنية ومادية أضخم بكثير بفعل التطور التكنولوجى.. لكن النتيجة دائمًا كانت برامج ماسخة مقلدة، لا طعم لها ولا لون.. لأن سمير صبرى واحد.
حكى سمير صبرى مع «بديع سربيه» حكايات كثيرة ومواقف جمعته بالكبار: أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش والسادات وجيهان السادات وسعاد حسنى ومصطفى أمين وعلى أمين وأنيس منصور وعادل إمام ونور الشريف.. اذكر أى اسم مر على مصر من الخمسينيات، وكان له أثر فى وجدان هذا الوطن ستجد له موقفًا وحكاية جمعته بسمير صبرى.
ويبدو أن السر كان فى شخصية سمير المتصالحة مع الحياة بكل ظروفها.. الدارك لقسوتها على الإنسان مهما أعطته، فيجب ألا يأمن جانبها، ويبدو أن ذلك اليقين الراسخ فى نفسه هو الذى جعله فى مقدمة الصفوف، عندما يحتاجه أحد من الأصدقاء.. دائمًا فى ظهر أى فنان، حين ينفض عنه الجميع، وتنحسر الأضواء الجالبة للأصدقاء المزيفين.
سمير هو التعبير الصادق عن المستحيل الثالث «الخل الوفى».. لا يمكن أن تتصور أواخر أيام أى فنان جارت عليه الزمن إلا وتجد سمير مُلازمه.. يكفى أن تعرف عن ابن الأصول أنه كان له ما يشبه الواجب اليومى المتمثل فى مكالمة صباحية لكل الكبار الذين يعرف أن المولد انفض من حولهم.. كان يدرك أنهم فى تلك المرحلة من العمر لم يكونوا بحاجة لأكثر من مكالمة وسؤال، فكان فى وقت من الأوقات مثلًا له مكالمة صباحية مقدسة لأمينة رزق، ثم تحية كاريوكا ثم سامية جمال، ثم نادية لطفى ثم سعاد حسنى، ثم شادية.
ويكفى أن تعرف مثلًا أن الفنان العظيم محمود عبدالعزيز عندما واجه أزمة مرضية شديدة واشتباهًا فى سرطان معدة قبل وفاته بسنوات، وقرر أن يسافر إلى فرنسا، ويجرى جراحة دقيقة، لم يكن برفقته فى الطائرة خارج أفراد عائلته سوى سمير صبرى.
ليس هذا فحسب، بل إن محمود لم يستأمن أحدًا غير سمير على وصيته، التى كان من أهمها أن يدفنه فى الإسكندرية، ويرش على قبره مياهًا كثيرة طبقًا لتعبير الساحر نفسه.
الآن وصل قطار سمير صبرى إلى محطة النهاية ليقابل أحباءه الذين رافقهم حتى آخر لحظة فى عمرهم، لكنه ترك فى نفس كل من عرفه غصة، لأن سمير بوجوده كان يشعرك بأن الباقين موجودون، لأن حكاياته عنهم موجودة طوال الوقت، ومخزن ذكرياته عنهم لا ينضب.. وبرحيله فقد شعرنا الآن بأن هؤلاء جميعًا رحلوا.