غزة الصغرى.. كيف تحوّلت «جنين» إلى أزمة لإسرائيل؟
خلال الأسابيع الأخيرة عادت مدينة «جنين» ومخيمها إلى جدول أعمال الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، مع إطلاق العملية العسكرية المسماة «كاسر الأمواج»، وذلك بعد فترة قصيرة من هجوم تل أبيب، الذى نفذه أحد الفلسطينيين المنحدرين من المخيم، وتسبب فى مقتل ٣ إسرائيليين وجرح آخرين، وتلاه هجوم بنى براك، الذى كان منفذه أيضًا من جنين.
وعلى إثر ذلك، تحولت المدينة الهادئة فى نظر السلطات الإسرائيلية إلى «غزة الصغرى»، فى إشارة إلى صعوبة التعامل معها فى ظل تدهور أوضاع المدينة الصناعية والتجارية بسبب جائحة «كورونا»، الأمر الذى حوّلها لساحة اشتباكات وبؤرة قلق لتل أبيب، ما استدعى تحركًا إسرائيليًا مختلفًا للسيطرة على الأوضاع بها، وهو ما نستعرضه فى السطور التالية.
الجائحة أثّرت على الأوضاع الاقتصادية.. والعقوبات أضعفت نفوذ السلطة الفلسطينية
مثّلت العملية العسكرية «كاسر الأمواج» تحولًا فى التعامل الإسرائيلى مع جنين، التى كانت إحدى المدن الهادئة فى الضفة الغربية منذ أكثر من ٢٠ عامًا، وذلك لطبيعتها الصناعية والتجارية، وإن ظل المخيم القريب من المدينة بؤرة توتر، وطالما تحاشت تل أبيب التعامل معها إلى أن اضطرت إلى ذلك مؤخرًا.
وبالنسبة لجهاز الأمن الإسرائيلى، وحتى سنوات قريبة، كانت مدينة جنين رمزًا للاستقرار الفلسطينى، فالمدينة مزدهرة اقتصاديًا، وسكانها يؤيدون حركة «فتح» والسلطة الفلسطينية، ولا يستدعى الأمر تدخلات من الجيش الإسرائيلى إلا بقوة قليلة وفى حالات استثنائية.
التنسيق الأمنى مع السلطة الفلسطينية وطبيعة تواجد «فتح» بالمدينة جعل الإشراف على جنين سهلًا، خلافًا لمناطق أخرى لا تخضع عمليًا لسيطرة السلطة، أو تنتشر بها التنظيمات الفلسطينية الأخرى.
وبالإضافة إلى ذلك، كان الاقتصاد فى جنين يعتمد على التجارة مع آلاف المواطنين من عرب إسرائيل، بسبب موقعها المركزى وانخفاض أسعار البضائع فيها، وطالما كان العمال الذين يعيشون بها يذهبون يوميًا للعمل فى المدن الإسرائيلية.
ورغم هذا الهدوء النسبى، ظل مخيم اللاجئين القريب من مدينة جنين مصدرًا دائمًا للقلق، بعدد سكانه الذى يتجاوز ١٠ آلاف نسمة، يعيشون على مساحة أقل من كيلومتر مربع- حسب بيانات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين «الأونروا»- كما أنه ظل رمزًا من رموز المقاومة الفلسطينية، رغم الهدوء الكبير الذى شهده فى السنوات الأخيرة.
تلك الأوضاع كلها، اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا، تغيرت فى الآونة الأخيرة، بعدما أصبحت مدينة جنين والمخيم من أكثر مناطق الضفة الغربية توترًا، وإن كان التغيير لم يحدث دفعة واحدة، بل بدأ خلال أزمة «كورونا» وتداعياتها، والإغلاقات التى أثرت كثيرًا على الأوضاع، ما استدعى تعاملًا مختلفًا معها.
ويكشف عن هذا التغيير فى التعامل مع المدينة الجنرال الإسرائيلى أريك موئيل، الذى قال عن عمل قواته بجنين: «نحن نعمل هنا على مدار الساعة، نحن لا نخاف أحدًا وسنصل إلى كل من ينبغى أن نصل إليه»، معتبرًا أن الجيش الإسرائيلى أخطأ حين امتنع عن العمل فى المدينة والمخيم منذ الانتفاضة الثانية التى اندلعت عام ٢٠٠٠.
وقبل ١٠ أشهر تقريبًا، وفى محاولة لتحسين الأوضاع، أقدمت تل أبيب على فتح المعابر مع الضفة، ما سمح بدخول عرب إسرائيل إلى جنين بغرض التجارة، لكن تم إغلاق هذه المعابر مجددًا فى أعقاب التداعيات الأخيرة، ما أثار اعتراضات حول هذا العقاب الجماعى للمواطنين، الذى يترك بالتأكيد أثرًا سلبيًا على المدينة وسكانها، خاصة أن عمل سكان المدينة فى إسرائيل جعل أوضاعهم أكثر استقرارًا من نظرائهم فى المخيم.
وترى بعض الأصوات فى جهاز الأمن الإسرائيلى أن استمرار العقاب الاقتصادى على سكان جنين سيُضعف من تأثير السلطة الفلسطينية، ويعزز فى المقابل من أوضاع الفصائل الفلسطينية بالمخيم، خاصة حركتى «حماس» و«الجهاد الإسلامى»، الأمر الذى سيؤدى لمزيد من التصعيد، ويستدعى إعادة النظر فى تلك العقوبات المفروضة على المدينة ومخيمها لضمان عودة الهدوء مجددًا.
وقف التنسيق الأمنى عزز قوة «الفصائل».. والاقتحامات زادت من فرص التصعيد
فى شهر فبراير ٢٠٢٠، وبالتزامن مع بداية جائحة «كورونا»، أعلن الرئيس الفلسطينى، محمود عباس، عن وقف التنسيق الأمنى مع إسرائيل، وذلك فى أعقاب ضغوط واشنطن وإدارة الرئيس الأمريكى السابق، دونالد ترامب، والإعلان عن خطة السلام المسماة «صفقة القرن»، الأمر الذى أثر كثيرًا على الأوضاع الأمنية فى الضفة الغربية.
ومع انتهاء التنسيق الأمنى مع إسرائيل، استمر تواجد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على حاله، دون البحث عن زيادة هذا التواجد لتعويض غياب السلطة الفلسطينية، ولم يُقْدِم الجيش الإسرائيلى، لشهور طويلة، على دخول المدن الكبرى فى الضفة الغربية إلا فى حالات استثنائية.
واستمرت الأوضاع على ما هى عليه فى ظل الإغلاقات الناجمة عن انتشار فيروس «كورونا»، فحتى يناير ٢٠٢١، كانت جنين لا تزال مغلقة بسبب الوباء، وتجنبت إسرائيل القيام بأى نشاطات فى المدينة أو فى مخيم اللاجئين، باستثناء حالات قليلة.
ووفقًا لتقارير إسرائيلية، فإن هذا التواجد الضعيف فى الضفة الغربية وغياب الضغوط الأمنية الإسرائيلية، وانعدام التنسيق مع السلطة الفلسطينية، سمح بحدوث فراغ أمنى، أدى لزيادة تواجد حركتى «حماس» و«الجهاد الإسلامى» فى المخيم، لملء هذا الفراغ.
ومع المواجهة العسكرية بين إسرائيل و«حماس»، فى شهر مايو من العام الماضى، تغيرت الأوضاع مرة أخرى، بعد انشغال «حماس» بإعمار القطاع وتجاوز تداعيات المواجهة، الأمر الذى سمح لحركة «الجهاد الإسلامى» بالعمل منفردة، واكتساب النفوذ فى الضفة، والانتشار بصورة أعمق فى مخيم جنين، فتحولت المنطقة، وفقًا لوجهة النظر الإسرائيلية، إلى أرض خصبة للاشتباكات، ما سمح بتنفيذ كثير من العمليات فى الأشهر الأخيرة.
ورصدت التقارير الأمنية الإسرائيلية تزايد ظهور بنادق من طراز «إم ١٦» و«كلاشينكوف» ومسدسات وغيرها من الأسلحة فى مخيم جنين، خاصة بعد رواج تجارة السلاح فى المخيم بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية أثناء فترات الإغلاق.
وأوضحت تلك التقارير أن السلطة الفلسطينية أصبحت تواجه مشكلة فى السيطرة على الأوضاع فى عدد من المناطق، من بينها جنين، فى ظل انتشار الفصائل المسلحة، والضغوط الاقتصادية على السلطة، الأمر الذى استدعى زيادة العمليات الإسرائيلية فى جنين، والعودة لعمليات الاقتحام والاعتقال.
ووفقًا لذلك، ومع بداية العام الجارى، عاد الجيش الإسرائيلى لممارسة أنشطته فى المدينة بوتيرة أكبر من السنوات الماضية، خشية تكرار العمليات الخارجة من مدينة جنين ومخيمها، وفى شهر فبراير تزايد التواجد العسكرى الإسرائيلى فى المنطقة وأصبحت وتيرة العمليات أكبر بشكل ملاحظ.
وحاليًا، يستمر التوتر فى جنين، خالقًا أزمة كبيرة لإسرائيل تشبه الأزمة مع قطاع غزة، وسط خشية إسرائيلية كبيرة من تسبب تواجدها العسكرى المكثف بالمدينة والمخيم فى الصدام مع الفلسطينيين، ودفع الأمور فى اتجاه التصعيد، فيما تنادى أصوات إسرائيلية عدة بإعادة التنسيق الأمنى مع السلطة الفلسطينية، ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على جنين، من أجل إعادة الأمور إلى ما كانت عليه فى العقدين الماضيين.