حكايات من مصر «قبل النكسة بيوم».. الوجه الآخر لـ«حرب ٦٧»
تبدأ أحداث رواية «قبل النكسة بيوم»، للكاتب إيمان يحيى، الصادرة عن دار «الشروق»، فى يوم الجمعة ٢٨ يناير ٢٠١١، وهو اليوم الذى أُطلِق عليه «جمعة الغضب»، حيث تنتوى الجدة «كريمة» أن تتوجه إلى المظاهرات فى ميدان التحرير، لكى لا تترك حفيدها يذهب بمفرده. ومن خلال هذا المدخل ذى البعدين التاريخى والسياسى، ينجرف بنا الحكى إلى حقبة قديمة من تاريخ مصر. وبالتحديد إلى العامين السابقين لحرب ١٩٦٧، ويتشعب بعد ذلك السرد فى ٣ خطوط متوازية، فتحكى كريمة، ابنة الرجل النوبى الذى يعمل بوابًا فى إحدى بنايات شارع قصر العينى، حكايتها فى تلك السنوات، والتحاقها بمنظمة الشباب الاشتراكى، وقصة الحب التى جمعتها بحمزة النادى، الكادر السياسى الواعد، وهو الشخصية الثانية فى الرواية، الذى يتولى بدوره، وبطريقة «تعدد الرواة»، سرد حكايته بين ١٩٦٥ وحتى ١٩٦٧ من جهة، ومن جهة أخرى يحكى عن حاضره، أثناء متابعته أحداث ٢٠١١، من مكتبه فى إحدى الشركات الأمريكية فى نيويورك. أما الخط الثالث، فيتمثل فى حكاية «عبدالمعطى سلام» الصحفى الذى يدير مكتب صحيفة عربية من القاهرة، الذى يغطى بدوره التظاهرات والمسيرات التى اندلعت فى يناير وفبراير ٢٠١١. يحاول إيمان يحيى عبر هذه الأصوات الثلاثة، أن يطرح رواية، ترصد جانبًا من تاريخ مصر الحديث، ويربطه عبر القفز بين زمنين: «منتصف ستينيات القرن الماضى- يناير وفبراير ٢٠١١»، بالماضى القريب لمصر، جاعلًا من القفز بين الزمنين، فرصة لرصد التغيرات السياسية والاجتماعية التى عاشتها المحروسة والتقلبات التى مرت بها البلاد.
عن الستينيات.. والأحلام المجهضة
تبدو حقبة الستينيات غريبة، ومتقلبة، شهدت فى بدايتها تصاعدًا للحس القومى فى البلاد، كان هناك مشروع آثر الكثيرون الالتفاف حوله: القومية العربية، والمشروع الاشتراكى. منظمات الشباب والأحزاب اليسارية وحرب اليمن.
فى وسط ذلك، يتناوب كل من كريمة عثمان، وحمزة النادى، وعبدالمعطى سلام، طرح ذكرياتهم عن تلك الحقبة، بما لها وما عليها، ومن خلال حكيهم تتشابك خطوط الحكاية. فكريمة ابنة البواب تترقى بالتعليم الذى أتاحته ثورة ١٩٥٢ لعموم الشعب، وتؤمن بعبدالناصر ومشروعه، وتحاول تجاوز التقاليد المتوارثة التى تراها بالية: مثل الإقطاع الزراعى، وعلى مستوى شخصى تحاول أن تتجاوز تقاليد النوبيين بعدم تزويج بناتهم لغير النوبيين، وتخوض هذه المعركة ضد أسرتها، مقررة الزواج من حمزة النادى الفتى القاهرى، الذى بدوره يحكى تاريخ عمله السياسى الذى بدأه مبكرًا وأنهاه مبكرًا بعدما جرى اعتقاله، فانتقل من حركة القوميين العربية إلى التنظيم الطليعى ومنظمة الشباب اللذين كانا يعملان كجزء من نظام عبدالناصر السياسى، إلا أن نظام عبدالناصر نفسه ينقلب عليه، ويبدأ النظام فى إلقاء القبض على مجاميع كبيرة من المنتسبين لتلك التنظيمات اليسارية والاشتراكية، لينهار الحلم على رأس حمزة، ويتحول من كادر سياسى واعد، إلى معتقل يذوق صنوف التعذيب والحبس الانفرادى، وحتى عندما يُفرج عنه يعتقل بعدها مرة أخرى، وبين اعتقالين يرى بنفسه هزيمة ١٩٦٧ وهى تدك أحلام الستينيات والمشروع الناصرى. فيكفر بقناعاته ويقرر الهجرة إلى الكويت، ومن هناك تتاح له الفرصة للسفر إلى الولايات المتحدة ويستقر هناك لسنوات طويلة تاركًا وراءه الوطن والحلم القومى وقصة حب فاشلة.
شقة العجوزة.. ملتقى مثقفى مصر
أما عبدالمعطى سلام، ومن خلال سرده حكايته مع الستينيات، وتاريخه كصحفى، يرصد إيمان يحيى جانبًا مهمًا من تلك الحقبة، الوجه الثقافى للبلاد، متمثلة فى شقة العجوزة، التى كانت تجمع مجموعة من مثقفى وكتّاب وفنانى مصر فى تلك الحقبة، فنرى فيها عبدالرحمن الأبنودى وسيد حجاب ومحيى الدين اللباد وعزالدين نجيب وصلاح عيسى وطارق البشرى وغيرهم.
يواظب عبدالمعطى على مجالسة أصحابه فى تلك الشقة فترة طويلة، رغم اعتراض زوجته فاتن التى تريده أن «يمشى جنب الحائط»، وأن يلازمها فى المنزل، ليواصل كتابته ويلتفت إلى أبحاثه تاركًا أولئك «المشاغبين». ورغم ضيق عبدالمعطى من حصار زوجته، فإن صحة رؤيتها تثبت عندما يقوم زوار الليل باعتقاله من شقته، ليلقى به فى السجن، ضمن المجاميع الكبيرة التى تعرضت للاعتقال فى الستينيات، سواء من أفراد التشكيلات السياسية المختلفة، أو من المثقفين والكُتّاب.
هكذا تتحول الستينيات من فترة واعدة للمصريين بجميع فئاتهم، إلى حقبة مخيفة دمرت أحلامهم من خلال: الهزيمة فى ١٩٦٧، وكذلك حالة الاعتقالات والتضييق والمطاردة والاعتقالات التى عاشها المثقفون والطليعيون فى الفترة التى تطرحها «قبل النكسة بيوم».
الضحايا يلتقون فى ميدان التحرير
تكسرت الأحلام، فشلت قصة الحب بين كريمة وحمزة، هى استسلمت للعادات والتقاليد وتزوجت من ابن عمها النوبى، لم تتزوج من «جوربتى». أما حمزة فقد هاجر ورمى الأحلام. وعبدالمعطى خرج من المعتقل وطلق زوجته وتزوج بأخرى وواصل مشواره الصحفى.
فى نهاية الرواية، يجتمع هؤلاء الذين كانوا شبابًا فى الستينيات، يجتمعون فى ميدان التحرير، وتحديدًا يوم تنحى الرئيس الأسبق محمد حسنى مبارك، فى محاولة من إيمان يحيى ربما لتمرير رسالة مفادها: الخسائر التى تسبب فيها الاستبداد يمكن تجاوزها بثورة الشعب وحكمه لنفسه. وإمعانًا فى هذه الرمزية، نرى حفيد كريمة، يلتقى بحفيدة عبدالمعطى، فى الميدان، فيتحول لقاء ثلاثى الستينيات فى ميدان التحرير سنة ٢٠١١، إلى لقاء خماسى يضم الحفيدين الشابين المتطلعين إلى المستقبل.
التوثيق وتعدد الأصوات
اختار الروائى إيمان يحيى بناء مميزًا لرواية «قبل النكسة بيوم»، فتقنية «تعدد الأصوات» سمحت لكل شخصية بأن تحكى الحكاية من زاويتها، كانت تلك التقنية فعالة فى تداول الحكاية وتقليبها على وجوهها، ولم يعبها إلا تشابه واضح بين أصوات الرواة الثلاثة رغم اختلاف شخصياتهم وخلفياتهم الاجتماعية والعلمية. اختار يحيى أن يضع بين كل فصل من فصول شخصياته، مقطعًا أسماه «فاصل»، جعل من ذلك الفاصل توثيقًا، يقطع به السرد، ويقدم من خلاله لمحات توثيقية من الستينيات: مانشيتات صحفية ومقتطفات من المقالات أو سرد لإحدى الوقائع التاريخية فى الستينيات، محاولًا بهذا البناء، أن يستكمل صورة تلك الحقبة فى مخيلة القارئ.