الكاريكاتير العاري.. رحلة الكيرڤات والترهلات من السخرية إلى الاتهام بالتحرش
12 يناير 1956، صدر العدد الأول من مجلة "صباح الخير" وفي صدرها باب "حكاية" كتبه إحسان عبد القدوس في البداية، وباقتراح من أحمد بهاء الدين رسم صلاح جاهين سلسلة "نادي العراة" المفاجئة لم يكن "جاهين" قد عُرف كرسام للكاريكاتير، مقارنة بشهرته كمؤلف أغاني وشاعر.
لم يغضب جمال عبد الناصر عندما بالغ الفنان التشكيلي جورج بهجوري برسم حجم أنفه بشكل كاريكاتيري نُشر بمجلة "صباح الخير" فترة الخمسينات.
يروي الشاعر والناقد شعبان يوسف لـ "الدستور"، أن الرسومات الكاريكاتيرية لـ "جاهين" أثارت حفيظة القراء أخلاقيًا، ووصلت رسائل اعتراضاتهم لأحمد بهاء الدين وإحسان عبد القدوس، إذ كانت المجلة تحظى بقدر واسع من التوزيع والانتشار.
بعد عشرة أعداد تقريبًا، كتب إحسان عبد القدوس يشرح للقراء، أن فن الكاريكاتير يقوم على أساس النقد الاجتماعي والسياسي.
دُشنت "صباح الخير" في نمط اجتماعي ناعم بعيدًا عن تناول الموضوعات السياسية، لكن الكاريكاتير تضمن انتقادا سياسيًا لازعًا وماكرًا خاصة في رسومات "جاهين".
ولفت يوسف إلى أن جاهين اخترع سلسلة "قهوة النشاط": " كان بيعمل صباح الخير أيها المدرسين، المخرجين، الساسة، كل عدد هذا من النوع، وتضمنت الرسومات نقدًا سياسيًا".
تزامن صدور صباح الخير مع المد القومي الناصري وتصدير الصورة الجديد لـ"عبد الناصر" بصفته زعيًما للقومية العربية، حسبما يشرح الكاتب الصحفي سيد محمود لـ "الدستور"، يقول: "بدأت تظهر مكاسب لها علاقة بالمرأة لها من حق التصويت في البرلمان، وهي مكاسب متقدمة قياسا بالدول الغربية، حتى الصورة التي يعكسها الأدب المصري وقتها، الباب المفتوح، أنا حرة، تظهر مكاسب وسعي المرأة للتحرير وربطها بالقضية بالقضية الوطنية التي كانت تتعلق بالموقف من الاستعمار وقتها، وكان المجتمع وقتها كان مهيئ لفهم تقدمي للدور الاجتماعي للمرأة، فلم يكن هناك ضغط اجتماعي سواء التحرش أو غيره من القضايا التي تضع المرأة في إطار عبارات تسليع الجسد وغيرها".
اشتد عود "صباح الخير" التي بدأت تفلت من قبضة هيمنة الدولة، فانطلق بعض الرسامين السياسيين.
ويؤكد شعبان يوسف أن أحمد بهاء الدين عبّر عن المضايقات التي كانت تواجهه في الفترات الأولى حسب اعترافاته في الحوار اللي أجراه معاه رشاد كامل ونُشر في كتاب" الصحافة والثورة-ذكريات ومذكرات، وأصبحت المجلة مدرسة، وتواجد فيها رسامين، أمثال، رجائي ونيس وكان فيه تاج، وتماضر تمرسوا على البورتريه السياسي، وكان اللباد مفرط في الكاريكاتير السياسي".
جيل ذهبي
يلفت "محمود" أن جيل الرسامين في فترة الخمسينات أطلق عليه " الجيل الذهبي" في مدرسة الكاريكاتير المصري، إذ ارتبط بالطفرة التي حققتها مجلة "صباح الخير" تحت رئاسة أحمد بهاء الدين، التي انطلقت تحت شعار" مجلة القلوب الشابة والعقول المتحررة".
رغم الانتقادات التي وصلت لمكتب عبد القدوس في خطابات تعبر عن انحياز أخلاقي واستيائها من بعض الرسوم الكاريكاتيرية، إلا أن الكاتب الصحفي، سيد محمود يشرح لـ "الدستور" أن المجتمع آنذاك كان قائمًا على التنوع الثقافي، وهو ما تؤكده بعض السير التي كتبها بعض الشخصيات التي عاشت في مدن القناة، يقول: "بيتكلموا عن مجتمع منسجم اجتماعيا، السيدات موجودين على الشواطئ، بشكل طبيعي جدا، وطبعا ده بتوضحه سينما الخمسينات، وكان مجتمع طبيعي متنوع ثقافيا، وكان في جاليات أجنبية موجودة بشكل أساسي".
يوضح سيد محمود أن الكاريكاتير يتكئ على فكرة المبالغة باعتباره فن محاكاة ساخرة، يعظم أو يقزم من بعض التفاصيل ليلفت إليها الانتباه، وهو ما يفرق بينه وبين التصوير التقليدي الذي تحكمه النسب والأحجام التقليدية.
جذبت "صباح الخير" رسامي الكاريكاتير والبورتريه معًا، كما يشير "محمود": "داخل صباح الخير، نجد رسام البورتريه جمال كامل، ورسام المناظر حسن فؤاد، وعبد العال حسن، وبجوارهم كان رسامي الكاريكاتير، كان فيه عدد مهول من الرسامين الكاريكاتير، وعندما حصل تحول في السياسة التحريرية انتقلوا لدار الهلال في مجلة سمير، حجازي، ومحي اللباد".
تنافست الصحف القومية والخاصة على جذب رسامي الكاريكاتير للعمل، ففي نهاية فترة الخمسينات، انتقل لفترة وجيزة للعمل داخل "أخبار اليوم"، يحكي سيد محمود، أن مصطفى أمين، رئيس تحرير "أخبار اليوم" جذب "حجازي" للعمل بالجريدة ردًا على انتقال "جاهين" للعمل بجريدة "الأهرام".
لم يحتمل "حجازي" العمل في "أخبار اليوم"، لاحتياجه لظروف تناسب صفاته الشخصية الخاصة.
ظلت الأمور مهيّئة لرواج فن الكاريكاتير وتقبله من المجتمع بتنوعه الثقافي، لم يكن إنتاج العمل الفني أو تلقيه من الجمهور يقع تحت شروط الضغوط الاجتماعية لحين ظهور بدايات المد "الوهابي".
ويؤكد محمود أن المجتمع وقتها كان مهيئًا لفهم الدور التقدمي لدور المرأة الاجتماعي، فلم يكن هناك ضغط اجتماعي سواء التحرش أو غيره من القضايا يجعل المرأة في إطار عبارة تسليع الجسد، أو العبارات التي بدأت تظهر منذ سنوات.
إدانة الكاريكاتير
أدينت الرسومات الكاريكاتيرية التي أعاد الشاعر شعبان يوسف نشرها عبر صفحته الخاصة بموقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك"، باتهامات أخلاقية ودينية واجتماعية.
أزعج كاريكاتير "حجازي" بعض متابعي "يوسف"، إذ كان لرجل بدين يتخيل النساء اللاتي يمكن أن يراهن عبر شواطئ الإسكندرية المتنوعة، وتباينت الاعتراضات "كيف يمكن أن يرسم نساء بملابس البحر "المايوه"؟، "كيف يحط من قدر المرأة باعتبارها جسدًا؟".
رسام الكاريكاتير، عمرو سليم، يؤكد لـ"الدستور"، أن رسومات "حجازي" لم تلقى أي اعتراضات من هذا النوع وقت نشرها، يضيف: "لم يكن يقابلها أي شيء على الإطلاق، أبدا أبدا، وما نراه الآن من قبيل الرجعية، وما يقال عن أن الكاريكاتير يساعد على التحرش يصدر عن سوء فهم لدور فن الكاريكاتير، وتساءل: "هل في ناس بتلبس مايوهات على البحر ولا لأ؟ هل متترسمش؟ ما تتصورش؟ مش دي طبيعة الناس؟ ولا لازم أرسمهم بينزلوا البحر بالجلاليب" المفترض أن ينظر الناس لفكرة الكاريكاتير".
ويسرد "سليم":"حجازي" رسم الشباب يعاكسون بنات في الشارع "معاكسة لطيفة" ولم يخرج أحد ويتهمه بأنه يروج للتحرش،
ويعتقد "سليم" أن تلك الاتهامات الجارية جديدة خاصة أن غالبية الناس أصبحوا يفتون باسم الدين في كل شيء: "فكلٌ باسم الدين يدعي أشياء ليس لها وجود، طبيعة المجتمع المصري ليست كذلك أبدا".
يشير إلى أن هذه النظرة لم تسد في عز صعود الجماعات الإسلامية وقبلها، إذ كان الفنان صلاح جاهين ينشر في فترة الستينات والخمسينات سلسلة باسم "نادي العراة"، ولا يوجد بها أي إثارة للغرائز.
يروي، في فترة التسعينات، كان يتولى رسم غلاف مجلة "اليسار" الشهرية التي تصدر عن حزب التجمع تحت رئاسة حسين عبد الرازق، وكانت تطبع في مطبعة "الأمل" التابعة لأحد المثقفين اليساريين.
وفي إحدى المرات وصله أن المطبعة تعترض على الكاريكاتير، وبُلّغ "عبد الرازق" أن أمن الدولة يعترض على الغلاف ولا بد من إرسال غلاف آخر، فرفض "معنديش كاريكاتير غيره"، وصدرت المجلة بغلاف أبيض.
وزع عدد المجلة على المفكرين والكتاب، وكتب محمد العزبي في جريدة "الجمهورية" أن الحكومة التي تخشى من كاريكاتير لعمرو سليم حكومة هشة لا تستطيع إدارة البلاد، لكنهم اكتشفوا أن مدير المطبعة هو الذي أزال الكاريكاتير وأدعى حكاية أمن الدولة، ونتيجة لذلك نقل "عبد الرازق" الطبع لمطبعة أخرى، ورسم "سليم" غلافا للعدد الجديد، وكان أقوى من الكاريكاتير الأول، والغلاف الثاني نشرت حكايته في صفحة "3".
يؤكد الكاتب الصحفي محمد شعير لـ "الدستور" أنه لم يحدث أي اعتراض جماهيري على الكاريكاتير إلا بعد تصاعد أفكار الإسلام السياسي في السنوات الأخيرة :"لم يحصل أي شيء، كله كان بيعدي بدون أي مشكلات، لأن الكاريكاتير كفن مهمته هي المبالغة، عادي رسم جمال عبد الناصر بأنف طويل وهو رئيس جمهورية".
ويلفت سمير عبد الغني إلى أن الردة الفكرية حصلت بداية من نزوح المصريين للخليج وعودتهم متأثرين بالأفكار الوهابية.
ويوضح "سليم"، أن شيوع الأفكار السلفية والرجعية بدأ تحديدا بعد عام 2011 :"لما حصل فجأة الناس بنت مباني مفاجئة بشكل عشوائي، وهو ما حدث في الثقافة والدين والغناء، والأدب وفي كل شيء، كل شيء أصبح مخالفا، وظهرت هذه الآراء".
ويتصور رسام الكاريكاتير سمير عبد الغني، أن هناك من الرجعية في تلقي الأعمال المبدعة، إذ لم يعترض أحد على "حجازي" أو على صلاح جاهين عندما رسم "نادي العراة".
ويرى أن الفن مرحلة أبعد من الواقع الذي نعيشه:" فعندما لم تسمح ظروفنا أن نستمتع بالبحر نشاهد فيلما سينمائيا، الفن مساحة من الحلم".
وحكى الفنان التشكيلي جورج البهجوري لـ"عبد الغني" أنه رسم أحد قادة الثورة بجوار جمال عبد الناصر، وبدا "عبد الناصر" عملاقًا وهو بجواره بحجم أصغر، وفي يده "فوطة" ينظفون بها قبة مجلس الشعب.
غضب عضو مجلس قيادة الثورة: "خلتني قليل أوي جنب عبد الناصر"، فرد "البهجوري":" من خلال المنظور الفني كان عبد الناصر في الأول وانت في الآخر، أنا ما اقصدش".
كان "جورج" يرى أن القائد كبطل كبير والشعب أصغر منه لأنه يمثلنا.
الصوابية السياسية
واعترضت بعض النسويات على الكاريكاتير باعتباره يحط من قدر المرأة أحيانًا بوصفها جسدًا، أو موضوعًا لإثارة الغرائز أو الضحك.
يلفت الكاتب الصحفي سيد محمود أن الكاريكاتير لم يواجه أي ضغوطات اجتماعية، من قبيل اتهامه بالترويج للتحرش أو تسليع جسد المرأة وغيرها من المصطلحات التي ظهرت مؤخرًا تحت وطأة مفهوم الصوابية السياسية.
ويرى "شعير" أنه لا يصح أن تنطبق قواعد الصوابية السياسية على الفن، يضيف: "لا يجدي تطبيق الصوابية السياسية على الفن، هنحرق الفن كله، من أول ما بدأ في كل حاجة، وهندخل في متاهة، الفن له قواعد أساسية تنطبق عليه من داخله".
ويظن أن التعامل مع الفن من خارجه سيؤدي إلى الاتفاق مع رؤية تيارات الإسلام السياسي التي تطالب بمنع "ألف ليلة وليلة" وقصائد "أبو نواس"، أو مراقبة الفن بأكمله: "إنما حجازي فنان كبير ولم تكن هناك تيارات إسلام سياسي متحفزة تنظر للفن من خارجه".
ويستطرد الكاتب الصحفي أعمال رسامي الكاريكاتير تخاطب لحظات التاريخ، الحاضر والماضي والمستقبل.
يحكي الرسام سمير عبد الغني أنه أثناء عمله في أمريكا، كانت سياسة التحرير تحرض على الانتقاد والسخرية من أي شيء حتى فكرة المعتقد: "إلا رجل الإعلان الذي يمول غير كده اللي يزعل يزعل".
يشبّه "عبد الغني "رسام الكاريكاتير بشاعر الهجاء، من حقه أن يقول شيء.