أعراض تكفيرية
استشهدت الإعلامية الفلسطينية المعروفة شيرين أبوعاقلة ودفنت، ونكأت جراح أمتنا العربية والإسلامية، تلك الجروح التي تظهر عند استشهاد أو موت شخصية وطنية لها تاريخها، وأظهرت الأعراض التكفيرية التي كانت كامنة تحت الجلد العربي المتعصب، لتظهر بقوة خلال ساعة واحدة من استشهاد السيدة.
فقد نشر المئات من الصحفيين والسياسيين والنشطاء على صفحاتهم عبارات الحزن والترحم على شيرين أبوعاقلة، التي وثّقت بالصوت والصورة على مدى ربع قرن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة.
انقسمت الكتابة إلى قسمين متعارضين، ولا وسيط بينهما..
قسم طلب لها الرحمة والمغفرة، باعتبارها شهيدة القضية الفلسطينية، لكن اللافت هذه المرة أن بعض الرواد اعتبروا أنه تجوز الرحمة على شيرين أبوعاقلة لأنها كانت تناصر القضية الفلسطينية، وهي قضية مهمة لكل العرب بمن فيهم المسلمون، كما أنها قتلت وهي تؤدي دورها في نقل ما يحدث في ساحة المواجهات بين إسرائيل وشعبها الأعزل من السلاح، فاعتبروها شهيدة، وطلبوا لها الرحمة من الله.
وقسم آخر سارع بضرورة عدم طلب الرحمة لها، قائلين إنه لا يجوز طلب الرحمة لها، وسارعوا بتقديم فتاوى للرد على المترحمين على "أبوعاقلة"، قائلين: لا يجوز الترحم على من كفر بالإسلام.. وذكروا عشرات الأدلة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
بل وسارع بعضهم باستحضار حديث غريب ورد عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه استأذن ربه في أن يزور قبر أمه، وقد ماتت على غير دين الإسلام، فأذن الله- سبحانه وتعالى- له بذلك، على ألا يستغفر لها!
ولا نعرف ما إذا كان هذا الحديث صحيحا أم هو منسوب إلى رسول الله، صلى الله عليه سلم، بقصد الوقيعة بين المسلمين وغيرهم.
ظهور تلك الأعراض في الأوساط الثقافية العربية والدينية واكبه في وقت معاصر لها ظهور مهنة أخرى، وهي مهنة الداعية المودرن، والتي تحدث عنها الإعلامي الدكتور محمد الباز، والكاتب الصحفي وائل لطفي.. كانت مهنة الداعية عادية، كانت لا تكفي تكاليف المعيشة، فبعد أن كان الداعية يرتدي الزي الشرعي للأزهر الشريف ويكتفي براتبه الحكومي الضئيل مثله مثل بقية موظفي الدولة، تطورت تلك المهنة مع زيادة حدة الأعراض التكفيرية لكثير من العرب والسلفيين، ليتخلى الداعية الجديد عن زيه الشرعي ويرتدي التي شيرت والجينز والقمصان الملونة، وتبدو لحيته محلوقة وناعمة، ويتحدث باللغة العامية بدلا من اللغة العربية الفصحى بلكنتها القريشية.
والغريب أنه في خلال الأربعين سنة الماضية تحديدا، ومع زيادة حدة الأعراض التكفيرية، تصدرت هذه المهنة كل المهن المربحة في مصر واقتربت من المهن التمثيلية والفنية في ارتفاع مدخولها، وذلك بعد الظهور الإعلامي في القنوات التي افتتحها خليجيون وعرب قادمون من الشرق، ويحملون تلك الأعراض، فأصبحت تدرّ على أصحابها ذهبا وعسلا وشهرة من المستحيل أن يحصل عليها علماء كبار في كافة التخصصات الهندسية والعلمية والاقتصادية والزراعية.. وهي مهنة لا تحتاج لرأسمال أو خبرات خاصة أو مؤهلات دينية، فيتسلح الداعية ببعض قشور الدين من ثقافة المراحل الإعدادية والثانوية في حصص الدين، وبعض بديهيات الدين الإسلامي، وحفظ بعض الآيات والقرآنية والأحاديث النبوية التي حفظناها كلنا في المراحل التعليمية، وجزء من السيرة النبوية.
فضلًا عن القدرة على التأثير والإلقاء من خلال التدريب الكافي على الإلقاء أمام مرآه، واستعمال حركات الجسد والأطراف؛ لإضفاء نوع من التأثير على حديثه العادي، بالإضافة إلى مقدمات المديح الطويلة التي يكيلها له الإعلاميون العاملون في تلك القنوات الدينية التي انتشرت انتشارا رهيبا.. ومهما كانت قدرته على الإقناع فإن كلامه سوف يجد قبولا عند نسبة كبيرة من بسطاء المواطنين المطحونين، والذين ينامون زمام التليفزيون، من الشعوب التي تبلغ الأمية بينها ما لا يقل عن سبعين بالمائة، حسب تقارير أجهزة الرصد المختصة.
والمعروف أن الشيخ سليمان بن صالح الخراشي، الذي توفى في مارس الماضي، من أبرز الكُتّاب والمشايخ السلفيين في السعودية، قد أورد قائمة طويلة بتكفير وقتل 70 «سبعين» كاتبا ومثقفا مصريا وعربيا، بعضهم توفى منذ زمن بعيد قبل مولد الشيخ، منهم: أحمد لطفي السيد، جبران خليل جبران، أبوالقاسم الشابي، محمد سعيد العشماوي، عبدالرحمن منيف، عبدالله العروي، إيليا أبوماضي، يوسف إدريس، نجيب محفوظ، طه حسين، جمال الغيطاني، نوال السعداوي، فرج فودة، فؤاد زكريا، جابر عصفور، أمينة السعيد، نصر حامد أبوزيد، نزار قباني، محمود درويش، سميح القاسم، محمد خلف الله، محمد عابد الجابري، وغيرهم.
وفي مارس 2008 أصدر الشيخ عبدالرحمن البراك، من كبار علماء الدين في السعودية، فتوى خطيرة تُكفّر كاتبين سعوديين، هما: عبدالله بن بجاد العتيبي، ويوسف أبا الخيل، بسبب ما اعتبره آراء «تكفيرية» وردت في مقالين منشورين في صحيفة «الرياض» السعودية، وغيرها، هما «إسلام النص وإسلام الصراع» للأول، وللثانى «في ميزان الإسلام».
وبظهور تلك الأعراض تقدم الإسلام السياسي المشهد الدموي، وأطلق حملة تحريضية جماهيرية واسعة ضد المثقفين، تزعمتها الجماعات الجهادية لتنفيذ عملية الاغتيال أو الملاحقة أو التهديد.
وإن كانت مشاهد القتل قد انسحبت قليلا، فإن الأعراض التكفيرية ما زالت قائمة وتعلن بوضوح عن تفشي المرض الخطير في كثير من طبقات الشعب، في غياب كامل للثقافة والتعليم.