«كأنك لم تكن» لـ تيسير النجار: حكاية البنت التي فقدت صوتها
تفتتح الكاتبة تيسير النجار روايتها الأحدث "كأنك لم تكن" والصادرة عن دار "خطوط وظلال" في الأردن، بفاجعة فقدان الشخصية الرئيسية في الرواية "رغد" لصوتها، بعد تعرضها لصدمة نفسية حادة متمثلة في هجران زوجها لها، تكتشف ذلك من خلال رسالة تركها لها الزوج "منصور" معلنًا فيها استحالة الحياة بينهما، ومتهربًا من خلال تلك الرسالة من لحظة مواجهة أو حتى لحظة وداع.
من هذه النقطة، تصحبنا الكاتبة في رحلة شيقة للتعرف على رغد، الفتاة التي فقدت صوتها بعدما هجرها حبيبها، اختارت تيسير النجار هذا المسار لتطرح قصتها، منذ الطفولة المبكرة لرغد، وحتى لحظة النهاية واكتشافها لهجران حبيبها وما يلي ذلك من أعراض الصدمة.
وفي هذا المسار، الذي طُرح بضمير المتكلم، سيرى القارئ بشكل جلي شخصية رغد، وعلاقتها المضطربة بوالدها، ذلك الشخص الجشع الذي ينفق كل ما يملكها في عمليات حفر في حوش بيته ممنيًا النفس بالوصول إلى دفينة فرعونية تضم آثارًا نادرة وذات قيمة مادية عالية حالمًا بالثراء السريع، وتسلط هذا الأب عليها وعلى شقيقتيها ووالدتها، والاحتقار واللامبالاة التي يتعامل بها هذا الأب مع عائلته، حتى في اللحظة التي يطلب منه أحد الدجالين أن يحضر شخصًا أثناء عملية استحضار الأرواح وتلك الطقوس العجيبة التي ترافق عمليات التنقيب عن الآثار، يضحي هذا الأب بأحد بناته ويقدمها للدجال لتتم عملية الاستحضار عليها.
في بيت مظلم وقاسي تكبر رغد، مترسخًا بداخلها إحساس دائم بالمرارة، والقهر، والخوف، وهو ما يجعلها تبحث عن الأمان عند رجل آخر سوى أبيها الغليظ. فيتطور هذا المسار ونرصد عدة قصص حب فاشلة، تنتهي بعثور منصور، الرجل الخمسيني، على رغد، بالصدفة، ليمثل هذا الرجل طوق النجاة بالنسبة لرغد، فيتزوجها وينتشلها من منزل والدها، ومع هذا الاقتران يدخل منصور أيضًا في بؤرة الأحداث، وتحت عدسة "الراوية".
منصور رجل محب، يتفانى في إسعاد زوجته، يدللها ويحسن معاملتها ويعتني بها، هو لا يشبه الرجال في تلك القرية في أقاصي الصعيد التي تدور فيها الأحداث، ومع منصور تبدأ الحقبة السعيدة في حياة رغد، مع الحب والعلاقة الحميمية وحتى الآفاق الرحبة التي يفتحها لها منصور، فمثلًا هو يساعدها على استكمال دراستها الجامعية، ولا يعارض خلعها للحجاب أو سعيها لدخول عالم كتابة الأدب والقصص والروايات.
لكن يبقى شيء واحد ينغص العلاقة بين رغد ومنصور على فترات متباعدة، فلا رغد ولا نحن كقراء نعرف بالتفصيل ماضي منصور، وأسرار زواجه الأول من سيدة أمريكية ولا سبب انعدام الاتصال بينه وبين ابنته الوحيدة. إنها سطوة الماضي، التي تطل برأسها من حين لآخر، مرة من خلال فضول رغد تجاه هذا الصندوق الأسود ومرة من خلال تعب منصور من عبء السر الذي يحفظه في قلبه.
إلا أن هذا الصندوق الأسود ليس السر الوحيد في الحكاية، لأن رغد نفسها هي الأخرى كتمت عن زوجها سرًا، ولم تخبره بحقيقة إصابته بفيروس "الهربس" ذلك المرض المناعي الذي قد يصل تأثيره إلى إجهاض الحمل، وبالتالي لم تخبره بأنه على الأرجح لن يصبح أبًا.
وفي لحظة ينفجر السران بالتزامن، فينهدم البيت، وتتلاشى قصة الحب، ويبقى الماضي مطلًا برأسه السوداء على ما كان "حاضرًا جميلًا". فيقرر منصور هجر زوجته والاختفاء بشكل نهائي.
وربما يفسر هذا الاختفاء سبب اختيار تيسير النجار لـ "كأنك لم تكن" كعنوان للرواية، مخاطبة منصور. أو، قد يكون هذا العنوان، من زاوية أخرى، عائدًا على رغد نفسها، التي أقصاها منصور من حياته، وكأنها لم تكن زوجته لفترة تزيد على الخمس سنوات، وربما هذا ما يفسر حضور قصيدة "تُنسى كأنك لم تكن" لمحمود درويش في تلافيف النص، الأمر الذي يزيد من التأويلات والتفسيرات المحتملة، إذ ربما يكون اختفاء منصور، هو عملية "الفطام العاطفي" الذي تعرضت له رغد، وحافز حقيقي لتبدأ مرحلة من الاستقلالية والاعتماد على النفس، بعد مرحلتين كانت فيهما مجرد متلقية لرعاية أسرتها في الأول والمقصود هنا هو وجود منزل تسكنه و3 وجبات يومية وبعد التعليم الذي حصلت عليه وإحساس لطيف من الأخوة، ثم في المرحلة الثانية كانت متلقية لرعاية منصور لها، الرعاية العاطفية قبل كل شيء، والآن باتت مُطالبة بأن تقدم هذه الرعاية لنفسها ودون الاعتماد على أحد.
الشيء الوحيد الذي انتظرته من هذه الرواية وبخلت علي به، هو ألا يكون حضور منصور مبتورًا من تمامًا من ناحية الماضي، فطوال قراءتي للرواية، تصورت أن السرد سيجنح بعض الشيء ناحية منصور لنرصد سره بشيء من التفصيل، وربما يتدخل منصور نفسه ويقوم بسرد عدة فصول من الرواية على لسانه، لتتحول تقنية السرد من "ضمير الأنا" إلى "تعدد الرواية" أو البوليفونية، إلا أن هذا لم يحدث، بسبب تركيز الكاتبة على مسار الحكاية من ناحية رغد فقط، الأمر الذي جعل شخصية منصور، أقل في الأبعاد والتفاصيل من شخصية رغد.
نجحت تيسير النجار في تقديم رواية مشاعر، حضور الانفعالات والأحاسيس المختلفة فيها أكثر كثافة من حضور الدراما والأحداث، ما أكسبها – رغم قصرها (141 صفحة من القطع المتوسط)" - إيقاعًا هادئًا نوعًا ما، باستثناء الجزء الأخير منها والذي يتميز بإيقاع أسرع تطلبته الوتيرة التصاعدية للأحداث.