عمر خيرت «المتمرد».. سيرة الموسيقار المصرى الأشهر
في 4 يونيو 2013، اعتصم المثقفون المصريون بمقر وزارة الثقافة بالزمالك، اعتراضًا على "أخونة الدولة" إبان حكم الجماعة الإرهابية والمخلوع محمد مرسي، وفي تلك الفترة كان من المزمع إقامة حفل موسيقي للموسيقار الكبير عمر خيرت، غير أنه بادر بإلغاء الحفل، وأصدر بيانًا يوضح سبب إلغاء الحفل وتضامنه مع المثقفين المعتصمين ورفضه سعي الجماعة لاحتلال مفاصل الدولة.
لا يمكن اختزال اعتصام المثقفين في 2013 في موقف الموسيقار عمر خيرت، ولكن يمكن بالتأكيد القول إن موقفه كان ذروة من ذرى ذلك الاعتصام، لا سيما لكونه الاسم الأشهر بين مجاميع المثقفين والفنانين الرافضين أخونة الدولة، وكذلك كان أحد الجسور القليلة الرابطة بين (الموسيقى الخالصة) والتي قد يصنفها البعض على أنها "نخبوية" وبين (الجمهور) ومتلقي الفنون.
يقول خيرت عن تلك الفترة المظلمة: "سنة حكم الإخوان كانت من أخطر الفترات التي مرت على مصر في تاريخها، فقد أرادوا هدم حضارة بلد عنوة، لكنهم لم يستطيعوا هذا، فلا أحد يقدر أن يهدم حضارة 7 آلاف سنة.. كانوا فاهمين الأمور بشكل خاطئ، وربنا فهمهم (صح)". ويرد هذا التصريح في كتاب "المتمرد.. سيرة حياة عمر خيرت"، الذي حرره الكاتب الصحفي المبدع محمد الشماع، وصدر عن دار نهضة مصر 2022.
وفي سنة حكم الإخوان، يذكر خيرت أنه تعمّد أن يزيد من عدد حفلاته حرصًا منه على وضع عدة خطوط حمراء تحت "هوية مصر الثقافية" التي حاول الإخوان طمسها.. يقول خيرت: "في تلك الحفلات كنت أقف بعد بعض المقطوعات وأقول (تحيا مصر)، وكان الجمهور يرددها ورائي، وكنت أشعر بفخر كبير عندما يقول لي أحدهم: (ربنا يخليك لمصر)".
وبغض النظر عن هذه المواقف الوطنية النبيلة من الفنان الكبير، ظل سؤال يراودني وهو: كيف استطاع عمر خيرت أن يقيم هذا الجسر بين (التأليف الموسيقي)، وبين المستمع المصري والعربي الذي تربى على ثقافة الطرب والموسيقى التي يتم توظيفها في النهاية لصالح مطرب يقدمها مغناة؟
من آسيا الوسطى إلى السيدة زينب
يقال إن مصر بلد هاضمة للثقافات، تستقبل الوافدين إليها بأذرع مفتوحة وتؤمّن لهم وطنًا جديدًا ليذوبوا فيه فيتحولوا إلى مصريين، وهذا بالضبط ما حدث مع أسلاف الموسيقار عمر خيرت، الذين جاءوا إلى مصر في 1850 من مدينة خوقند (قوقند) الواقعة في دولة أوزبكستان، ويرد في كتاب "المتمرد.. سيرة حياة عمر خيرت": "جاء جدي الكبير عبيدالله إلى مصر في سنة 1850، وعمل بها خطاطًا، وكان له شهرة كبيرة في هذا المجال، إذ طلب منه الخديو سعيد أن يكتب اسمه على أزرار ضباط تشريفة الخديو، وأدى المهمة بإتقان وأمانة حتى إنه أرجع للخديو ما تبقى من ذهب ناجم عن عملية حفر الاسم على الأزرار، فقرر مكافأته بمنحه قطعة أرض، وخيّره بين قطعة هي مكان كوبري الجلاء الآن، أو قطعة في منطقة بركة الفيل القريبة من السيدة زينب، فاختار الأخيرة، وبنى لنفسه فيها بيتًا يعيش فيه هو وأبناؤه، ولأن المنطقة كانت حينها شبه خاوية، كتب جدي لافتة لمن يريد أن يبني بيتًا فيها، وبالفعل جاء الكثيرون، وعمرت المنطقة، وسُمي الشارع باسم جدي الأكبر خيرت".
وتزوج جد عمر خيرت المباشر (محمود) من سيدة يونانية مسيحية، لتزداد بذلك الخلطة العرقية الثقافية ثراءً وغنى، وهذا هو نسب عمر خيرت من ناحية الأب، أما من جهة الأم، فوالدته هي السيدة عقيلة إبراهيم محمود، وهي، كما يرد في كتاب "المتمرد"، تنحدر من أب تونسي الأصل قادم من جزيرة جربة، أما والدتها، وجدة عمر خيرت، فهي ابنة نعمات بنت محمود باشا طاهر الألباني الأصل.
وهكذا تجمعت في عروق عمر خيرت دماء تنتمي لأصول مختلفة، وشحنته بأبعاد ثقافية متعددة، غير أنه يعود ويؤكد بعد ذلك مصريته قائلًا: "أصول العائلة من خوقند، لكنني مصري، وأجدادي مصريون".
الحاضنة الفنية الأولى
كان حب الموسيقى بمثابة الإرث العائلي لدى عائلة خيرت، الجميع يحبون الموسيقى، وأول من نبغ في هذه العائلة كان الموسيقار المصري الشهير أبوبكر خيرت، عم عمر خيرت، ومؤسس معهد الكونسرفتوار، وهو أحد أهم رواد تطوير الحركة الموسيقية في مصر، وهو أيضًا الرجل الذي وضعه عمر خيرت نصب عينيه واتخذه قدوة ومثلًا أعلى.
لكن قبل بروز اسم أبوبكر خيرت، كان منزل السيدة زينب حاضنة فنية ممتازة، هيأت الأجواء لعمر خيرت ليصير هذا الموسيقار المشهور، فقد اهتمت العائلة بالفنون، حتى إن عمر وأشقاءه أقاموا في طفولتهم مسرحية في "حوش" البيت، بل ودعوا الجيران لحضورها، كما كان والد عمر خيرت "علي" شغوفًا هو الآخر بالموسيقى، وكان يستقطع من وقته كل صباح، ويخصص جزءًا منه ليعزف على البيانو.. أما جده، فكان شغوفًا هو الآخر بالموسيقى، بل وحوّل منزله إلى ما يشبه الصالون الثقافي، وفي سنوات لاحقة، عندما التقى عمر خيرت الموسيقار محمد عبدالوهاب، أخبره هذا الأخير بأنه التقى أم كلثوم للمرة الأولى في منزل جد عمر خيرت.
هكذا توفرت لعمر خيرت البيئة المناسبة لاحتضان موهبته، وعلى الرغم من إصرار والده على أن يكون لعمر مهنة أخرى إلى جانب الموسيقى، اقتداء بالعم أبوبكر خيرت، واقتداء بأشقاء عمر خيرت، إلا أن الأب عاد وأذعن وأدرك أن ابنه منذور للفن، حدث ذلك عندما كان الوالد يشرح لعمر درسًا في الجبر والحساب، وكان أصدقاء عمر يقفون تحت البيت في انتظار أن ينزل لهم ليصحبوه إلى حفل ليعزفوا فيه، وعندما لاحظ الأب أن ابنه مشغول بالحفل فقط وغير قادر على التركيز في الدرس بسبب تعلقه بالموسيقى، أغلق الكتاب وقال له إن طريقه هو الموسيقي.. الموسيقى فقط.
حقبة الدرامز
التحق عمر خيرت بالكونسرفتوار، إلا أنه سرعان ما رسب في اختباراته لأنه "أوفر كواليفايد"، حدث ذلك عندما عزف قطعة موسيقية خارج المنهج الدراسي، ولم يشأ عمه أبوبكر أن يتدخل، وترك عمر خيرت الكونسرفتوار، إلا أنه رجع له بعد ذلك بسنوات، بعد وفاة عمه أبوبكر.
في تلك الفترة بدأ عمر خيرت مسيرته الفنية، واضطرته الظروف للعزف على البيانو في بعض الفنادق والمطاعم، لكنه قام بقرار ثوري بعد ذلك، عندما تحول إلى عازف "درامز"، الأمر الذي يعد بمثابة ثورة منه وتمردًا على التقاليد الموسيقية التي تشربها من العائلة ومن عمه، لدرجة أنه يقول إن عمه لو لم يمت مبكرًا لما تجرأ عمر خيرت على التحول إلى عازف درامز، كانت تلك حقبة الستينيات، وما حملته معها من انفتاح على الموسيقى الغربية، الروك والبوب وما شابه ذلك.. لقد أمضى عمر خيرت 4 سنوات عازفًا للدرامز، وأسس فرقًا موسيقية وشارك في فرق أخرى، بل قدّم حفلات كانت تكتظ بالجمهور، في مدن مصرية مختلفة وفي عدة بلدان عربية.. وانقضت (هوجة) الشباب والتمرد تلك بأن ترك عمر خيرت تلك السنوات الأربع وراء ظهره وعاد للبيانو مرة أخرى.
لكنه وعلى الرغم من تلك الفترة التي حقق فيها شيئًا من الانتشار، لم يكن قد وصل بعد بشكل كافٍ إلى الجمهور، ولم يتحقق مشروعه الرئيس بإيصال الموسيقى (الموسيقى الخالصة) إلى المستمع المصري، الذي تأسست ذائقته الموسيقية على أساس المغنى والتخت الشرقي.
فكيف استطاع عمر خيرت لاحقًا أن يحقق هذا الهدف؟
الموسيقى التصويرية.. مرحلة الانتشار
يقول الموسيقار الكبير في الكتاب القيم "المتمرد.. سيرة حياة عمر خيرت": "كيف أستطيع أن أجعل الشعب يستمع إلى موسيقى خالصة؟ هذا أمر صعب، والحمد لله تحقق.. تحقق لعدة أسباب، فأنا أعتقد أن الانتشار هو الذي يساعد الموسيقى على الوصول إلى الناس، وقد ساعدني على ذلك الموسيقى التصويرية للأعمال الدرامية التي قدمتها".
كان لعمر خيرت صديق متزوج من ابنة فاتن حمامة، وقد دعاه هذا الصديق لحضور احتفال فاتن حمامة وزوجها بعيد زواجهما، وفي تلك المناسبة، عزف عمر خيرت على البيانو، وأثار انبهار فاتن حمامة التي سألته عن معزوفاته، فرد خيرت بأنها "ارتجالات من مخيلتي"، وردت فاتن حمامة قائلة: "طيب ليه مش بنسمع الحاجات دي؟".. بعد هذه الاحتفالية، اتصلت فاتن حمامة بعمر خيرت وطلبت منه أن يضع خلفية موسيقية لبرنامج "قطرات الندى" الذي يذاع على إذاعة البرنامج العام في مصر والكويت بالتزامن، وتكون تلك الموسيقى عادة خلفية لقصائد وأشعار كبار شعراء العالم العربي، وقام عمر خيرت بذلك الأمر وحققت موسيقاه صدى رائعًا، وأعقب ذلك طلب مباشر من فاتن حمامة لعمر خيرت ليضع الموسيقى التصويرية لفيلمها "ليلة القبض على فاطمة" في منتصف الثمانينيات، وكانت تلك الموسيقى التصويرية التي ألفها عمر خيرت هي بدايته الحقيقية في الوصول إلى الجمهور.. ففي ظاهرة نادرة للغاية، جرى طرح تلك الموسيقى في شرائط كاسيت، موسيقى مجردة دون أي صوت لأي مطرب، والمدهش هنا أن ذلك الشريط، حقق انتشارًا جيدًا، وتكرر نجاح عمر خيرت في تأليف الموسيقى التصويرية، ولكن بشكل أكبر، من خلال فيلم "قضية عم أحمد"، بل انفجرت انفجارًا مدويًا، وصارت الموسيقى التصويرية تلك مطلبا ثابتا من الجمهور في حفلات عمر خيرت.
ومن بعد ذلك، بدأ اسم خيرت في الانتشار، وبدأ مشروعه الفني يحظى بإقبال وقبول من الجمهور، وألف الموسيقى التصويرية للعديد من الأفلام والمسلسلات، وصارت الحفلات التي يقدمها خيرت، سواء في دار الأوبرا أو مكتبة الإسكندرية أو غيرها من الأماكن، داخل مصر وخارجها (كاملة العدد)، ليصبح بذلك الموسيقي المصري الوحيد تقريبًا الذي استطاع أن يسبق المغنين والمطربين من حيث الحضور والجماهيرية.